أخبار وتقارير

السودان تتخلي عن معسكر ايران وتركيا وقطر خوفا من تغيير في موازين القوي بالشرق الاوسط


لم يكن الموقف السوداني الرسمي الداعم للسعودية في حملتها العسكرية التي أطلقت الخميس 26 مارس 2015 تحت مسمى "عاصفة الحزم" ضد الحوثيين في اليمن "مفاجئا". إذ سبقه مجموعة من الدلائل التي تؤشر على أن نظام الخرطوم بدأ يميل في رهاناته الإقليمية، ولو "بصيغة مرحلية" لصالح دول الخليج، وبخاصة السعودية، لاسيما بعد أن مثلت علاقاته المتنامية مع إيران خلال السنوات الماضية تكئة لمحاصرته إقليميا، وتهديدا للداخل.



فقبل "عاصفة الحزم" بيوم واحد، خرج الرئيس السوداني عمر البشير إثر لقائه مع الملك سلمان بن عبد العزيز، بتصريح مفاده "أن أمن السعودية خط أحمر لدى السودان"، وذلك في مؤشر واضح على حالة الانفراج في العلاقات بين البلدين التي بدأت نذرها منذ سبتمبر 2014، عندما قررت الخرطوم إغلاق المركز الثقافي الإيراني وفروعه لديها.

وتتماس التحولات في السياسة الخارجية السودانية تجاه الصراع السعودي– الإيراني في المنطقة مع مسارات إقليمية أخرى اجترحها نظام البشير في الأونة الأخيرة، وبخاصة تجاه مصر في مسعى لإعادة بناء تحالفاته الإقليمية عبر"التكيف المرن" مع التغيرات في موازين القوى في المنطقة. فالرهان السوداني على التنسيق مع قطر وإيران وتركيا لم يعد وحده "عاصما" لنظام البشير من الأضرار الأمنية والسياسية والاقتصادية التي باتت يواجهها في داخليا وخارجيا.

ضغوطات متصاعدة:

لا يمكن فهم الاتجاه العام السوداني لفك الارتباط مع إيران والرهان على السعودية وحلفائها، إلا في سياق تشابك خطوط الضغوط الداخلية والخارجية على نظام البشير. فداخليا، يواجه النظام السوداني استحقاقا رئاسيا في إبريل 2015، رشح فيه حزب المؤتمر الوطني الحاكم البشير لولاية جديدة. وبرغم أن النظام يخضع لضغوط من المعارضة التي تطالب بعض أحزابها (مثل حزب الأمة) بتأجيل الانتخابات أو مقاطعتها (مثل الحزب الشيوعي السوداني) على غرار انتخابات 2010، ريثما يتم تشكيل حكومة انتقالية تدير الانتخابات بحيادية، إلا أن تلك الضغوط تتراجع مع تشرذم المعارضة، وكذا ضعف الثقة في مدى قدرة الأحزاب التقليدية على تغيير الوضع العام في هذا البلد.

بيد أن التحدي الاقتصادي قد يكون الأكثر ضغطا على نظام البشير إذ أنه يمثل محفزا للاحتجاجات، خاصة من الطلاب والحركات الشبابية، كما جرى في العام 2013، عندما خرجت تظاهرات تندد برفع أسعار المحروقات. فالاقتصاد السوداني يعاني منذ انفصال الجنوب عنه في العام 2011، وفقدان 75 % من عاداته النفطية تدهورا حادا خلف تأثير على سعر صرف العملة المحلية، وأجبر الحكومة على عمل إصلاحات اقتصادية لمواجهة عجز الموازنة وتزايد الدين العام الداخلي، الأمر الذي أسهم في ارتفاع للأسعار.

وخارجيا، سعى السودان لاستغلال الصعود الإسلامي بعد الثورات العربية لاسيما في ظل امتلاك نظام البشير الإسلامي لعلاقات مع جماعات إسلامية منذ اعتلائه للسلطة في عام 1989، عبر بناء شراكات إقليمية، وخاصة مع قطر التي تلعب دور اقتصاديا وسياسيا داعما للنظام السوداني في أزمة دارفور غربي السودان، بخلاف اتجاه الخرطوم لتوطيد علاقاتها مع طهران، خاصة في الجانب الأمني والعسكري، لاسيما في ضوء المسعي الإيراني لاستغلال الميزة الجيوسياسية للسودان على البحر الأحمر لتمرير شحنات السلاح، سواء إلى حزب الله أو حركة حماس غزة من جهة، ومن جهة أخرى الاستفادة من السودان كمدخل لتعميق نفوذ طهران في شرق أفريقيا.

على أن الاتجاه لتوطيد علاقات نظام البشير مع طهران، قوبل بضغوط إقليمية، حيث تعرضت السودان لغارات جوية أكثر من مرة منذ العام 2009، وحتى العام 2012 التي قصف فيها مجمع اليرموك الذي تردد أنه يحوي سلاح إيراني لقصف جوي واتهمت الخرطوم إسرائيل بشن الغارات.

وبرغم أن الخطاب السوداني الرسمي دأب على التأكيد بأن علاقته مع إيران ليست خصما من رصيده تفاعلاته مع دول الخليج، إلا أنه بدا خطابا غير مقنع دون خطوات تنفيذية لاسيما مع بروز الوثيقة التي سربها الخبير الأمريكي أريك ريفز في سبتمبر 2014 ونفتها الخرطوم حول اجتماع لقيادات أمنية سودانية في 31 أغسطس 2013 خلص إلى أن على الخرطوم الحفاظ سرا على علاقتها الاستراتيجية أمنيا وعسكريا مع طهران، وعلنا تسعى للحفاظ على علاقتها مع دول الخليج، لاسيما في ظل احتياجها للدعم المالي والاستثمارات لمواجهة أزمتها الاقتصادية.

وشهدا عاما 2013 و2014 ضغوط خليجية متعددة، كي يراجع السودان موقفه من إيران منها مثلا، منع طائرة البشير من المرور بأجواء السعودية في اغسطس 2013 لحضور مراسم تنصيب الرئيس روحاني أمام مجلس الشورى الإيراني. وإن بدت الأسباب المعلنة للمنع آنذاك فنية، إلا أنها مثلت لدى البعض رسالة بعدم رضاء السعودية على طبيعة العلاقات المتنامية بين الخرطوم وطهران.

وقد تصاعدت الضغوط خاصة في جانبها الاقتصادي من السعودية على الخرطوم، عندما قررت الأولى في فبراير 2014 وقف التعامل مع البنوك والمصارف السودانية، مما شكل جرس انذار للخرطوم بأن الايرادات التي تجنيها من غالبية صادراتها لدول الخليج، خاصة من الماشية قد تتضرر، بخلاف أن الاستثمارات السعودية التي تصل إلى ما يقرب من 13 مليار دولار في 590 مشروعا في القطاعات الصناعية والزراعية التعدينية قد تكون هي الأخرى مهددة، علما بأن السعودية هي ثاني أكبر شريك تجاري للسودان بعد الصين.

ولعل وزير الخارجية السوداني علي كرتي قد أقر بوجود توتر سوداني- سعودي في مايو 2014، بل وسعى عنذئذ للقول إن الخرطوم رفضت عرضا إيرانيا بإقامة منصة دفاع جوي على البحر الأحمر لمواجهة القصف الإسرائيلي المتكرر، كي لا تعتبرها السعودية خطوة معادية.

وما عمق الضغوط الإقليمية خاصة الاقتصادية، طبيعة التوترات التي تخبو حينا وتظهر أحيانا أخر بين جوبا والخرطوم بعد انفصال جنوب السودان حول رسوم مرور النفط وترسيم الحدود، برغم توقيع اتفاقيات بين الجانبين لحل النزاعات في سبتمبر 2012 ومارس 2013. إذ تهدد الخرطوم باغلاق أنبوب النفط الذي يصل من الجنوب إلى البحر الأحمر في الشمال، ردا على اتهام لجوبا بدعم حركات مسلحة معارضة لنظام البشير في دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق.

استجابات سودانية:

في مواجهة هذه الضغوط الاقتصادية، علاوة على التغير في مسارات التحالفات الاقليمية لاسيما بعد سقوط الإخوان المسلمين في مصر في 30 يونيو، وبروز تحالف مصري سعودي إماراتي في عدد من الأزمات الاقليمية بخلاف بروز ملامح تغير في السياسة السعودية في عهد الملك سلمان بإعطاء أولوية للصراع مع إيران، بدأ السودان في تغيير مسارات تحالفاته الإقليمية، في محاولة لاستجلاب الدعم المالي لتأمين بقاء النظام، وقدرته على مواجهته للأوضاع الاقتصادية المتردية.

في هذا الإطار، سعت السودان لتقليل حدة الهواجس الخليجية من علاقاته مع إيران، ففي سبتمبر 2014، قررت اغلاق المراكز الثقافية الإيرانية، ثم اتبع البشير القرار بزيارة إلى السعودية في نهاية الشهر نفسه، معلنا أن بلاده تقف ضد التشييع بل، وزاد على ذلك بأن الحوثيين في اليمن يشكلون خطرا أكبر من داعش، كما ورد في تصريحاته لصحيفة الشرق الأوسط اللندنية في الـ11 من أكتوبر 2014. ومن ثم، تحول الخطاب الرسمي للمسئولين في النظام السوداني باتجاه أن علاقاته مع إيران "عادية وليست محورية"، وأن السعودية هي التي أنقذت الخرطوم من أزمتها الاقتصادية، بينما لم تنفذ طهران شيئا من وعودها.

وتوطد رهان السودان على السعودية مع زيارة الرئيس البشير للرياض قبل يوم واحد من عاصفة حزم ضد الحوثيين، والتي أعقبها تعهد للملك سلمان بن عبد العزيز ببذل الجهود لرفع العقوبات كليا عن السودان، كما أمر صناديق التمويل والمستثمرين، بتقديم الدعم للخرطوم، وتلى ذلك، مشاركة سودانية عسكرية بثلاث طائرات في "عاصفة الحزم"، والإعلان عن النية للمشاركة بقوات برية.

وفي مسار آخر، يتسق مع الاتجاه لاعادة بناء تحالفاتها الإقليمية، أعاد نظام البشير حساباته تجاه مصر تحت قيادة السيسي التي بدت هي الأخرى منفتحة على الخرطوم، برغم التباين في التوجهات الإيديولوجية والتوتر إثر سقوط جماعة الإخوان المسلمين، لا سيما مع وجود مصالح متبادلة في أزمتي ليبيا وسد النهضة. ومن هنا، رد البشير على زيارة السيسي للخرطوم في يونيو 2014 بزيارة مماثلة في أكتوبر من العام نفسه. 

وبدا أن ثمة تغيرا نسبيا في معالجة أزمة سد النهضة، خاصة بعد اتفاق المباديء الأخير الذي وقعه البشير مع كل من الرئيس السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي ديسالين في الخرطوم يوم الـ23 من مارس 2015. أما فيما يتعلق بالأزمة الليبيةـ فقد شهدت قدرا من التغيير النوعي في الموقف السوداني الذي طالما اتهمته حكومة طبرق بدعم تحالف فجر ليبيا (الإسلاميين – مصراته) في الغرب إلى دور أكثر توازنا بين أطراف الصراع في المشهد الليبي، إذ قال البشير إنه دور السودان يتعلق بـ"إصلاح البين بين كافة الفرقاء خاصة أنه يمتلك علاقات مع كل أطراف النزاع الليبي".

مفسر للبقاء:

ما سبق، يشير إلى أن قدرة النظام السوداني على ممارسة نوع من الاستجابة للضغوط الاقليمية، بل وتوظيفها كلما أمكن لمواجهة التحديات الداخلية ربما تشكل أحد مفسرات صموده في مواجهة "استحقاقات كبرى" كانت كفيلة بانهيار النظام ذاته، منذ انفصال الجنوب، والأوضاع الاقتصادية المتردية، وأزمة دارفور، بل وطلبه للتحقيق في جرائم حرب في إقليم دارفور، والتي قررت المحكمة الجنائية الدولية في ديسمبر 2014 حفظ التحقيق فيها، ما عده البشير انتصارا في مواجهتها.

ويظل إن المسار الأكثر رجوحا للسياسة السودانية تجاه الإقليم في المرحلة القادمة هو تدعيم الرهان على السعودية، والحد من تفاعلاتها مع إيران وانتهاج سياسات متوازنة تجاه قضايا الجوار الإقليمي، على أساس أمرين، أولهما أن منطق التبريد الخارجي يمثل نمطا للأنظمة السلطوية التي تستمر في الحكم لمدة طويلة تتجاوز الـ25 عاما في حالة نظام البشير، بينما الأمر الثاني يتعلق بأن النفوذ الإيراني الممتدة في عدة عواصم عربية (بغداد، ودمشق، وصنعاء، وبيروت) سيحتل أولوية في قائمة الصراعات الإقليمية وخاصة لدى السعودية.

التحليل صادر عن المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية وحدة تحليل الازمات
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى