الأخيرة
سيدة قاصرة العقل فاقدة الأهلية، أحبها أهل بلدتها واستوصوا بها، فأطعموها وكسوها وأنسوا بها ما استطاعوا

للكاتب د. فرج الحسيني
السيدة الصالحة الشيخة نوال الداوي 1935-1996م
سيدة قاصرة العقل فاقدة الأهلية، أحبها أهل بلدتها واستوصوا بها، فأطعموها وكسوها وأنسوا بها ما استطاعوا، ومنهم من اتخذها تميمة يلتمس منها البركة، وحرزًا يتقي به عثرات الزمان وصروفه، فكانت عندهم بوصلة الرضا ومؤشر السخط، وقد اتفق على محبتها كل العائلات رغم تفاوتها وتضادها أحيانًا، وكانت هي تختلف إلى بيوت أحبتها، وتمر على أخرى أنفتها، فكانت للناس كالسلك في العقد)
القصة
حوار النفس:
يسألنى أحدهم مستهجنًا متجهمًا: ما الذي حدا بك أن تنحوا هذا النحو؟ لماذا هذا الكلف بامرأة كانت تهيم كما تهيم السوائم في البراري، لا طائل من سيرتها؟، وهل بلغت بك البلاهة أن تكد قلمك وتسود ورقك لتؤرخ لذوي العاهات والمجاذيب والمساكين، في وقت ينهمك الناس فى الجمع والكنز؟ سؤال وسؤال، قال ذلك ومضى لحال سبيله، لكن كلامه شغل فكري وأثار خواطر نفسي، فرجعت إليها أسألها بصوت مسموع، كما يسأل الخابل الملتبس نفسه، هل سيصفنى صاحبي بالخبل؟ هل سيتندر علّي؟ وهل قصد النصح أم ثرثر ولغى ومضى؟.
وأنت أيتها النفس الثائرة الساخطة، وأنت أيها الخاطر القلق المضطرب، ويا أيها الصدر الضيق الكئيب، حقًا! لم العناية بسيدة لا حول لها ولا طول؟، كيف استحال أمرها إلى رغبة لا استطيع ردها، فاستسلمت لها مذعنًا أو مستعذبًا؟، ما الذي جعلني أسير ذلك السير، وأقطع تلك المسافة، وأكد ذياك الكد، لأبلغ بيت شاب من ذوي رحم تلك السيدة من آل صقر صنو آل الدرابسة، أسأله المعونة للوقوف على حالها؟، فيهش للقائي ويدعوني إلى شقته التى ما كان لي أن أدخلها لولا طيشي وخفتي، فقضينا شطرًا كبيرًا من الوقت يسترجع هو الماضي، وأدون أنا خلفه مرة، وأعينه على الذكرى مرة أخرى، أتراه وأنا جالس معه تلك الجلسة كان مغتبطًا مستملحًا؟، أم أنه نظر فرآنى بائسًا حائرًا مضطربًا، فعطف علّي ورفق بي ورق لحالى؟.
مالك تنظر لذكراها نظر الإكبار والإجلال؟، أبعد هذه السنين تجلس إلى دفاترك وتأخذ تنشئ قصتها؟، ألم تك ممن كانوا ينكرون تقديسها، وتوقيرها ذلك التوقير الديني؟، ألم تك ممن لا يرون فيها سوى سيدة بائسة ساذجة نُكبت في عقلها، فهي تأت بما تأت من لزمات وحركات وإقبال وإدبار، وأنه لولا أن فتح الله لها في قلوب الناس بابًا من العطف تتعيش منه، لأعرض الناس عنها، وأنهم لو فعلوا ذلك؛ فأنها كانت ستنزع ملابسها من الناس نزعًا، وتخطف قوتها منهم خطفًا، وتنشب أظفارها في حناجرهم ووجوههم، أنا لست مختارًا حين أكتب عنها؟، وسأصفها كما رأتها العين التي كانت تقدسها والنفس التي كانت توقرها.
حين كنت صغيرًا:
أيتها السيدة البريئة الساذجة لماذا يمر طيفك بخاطري ويطرق أبواب الماضي طرقًا قويًا، ويلح في ذلك إلحاحًا شديدًا؟
أتذكرين؟ حين اجتمعتا أختاكِ يتدارسون شأنكِ، فقالت إحداهما أنترك أختنا تهيم على وجهها في الزروع والدروب، وتجتاز الآجام والمسالك، وتقطع المخارم والمخارج؟، فأتمرتا على حبسكِ وإقصاءكِ، فلما أغلقتا الباب عليكِ وأوصدتاه؛ ثارت ثائرتكِ، وأجهشتِ بالبكاء، وأخذتِ تضطربين وتتخبطين، وتصرخين وتتمرغين، وتنتفين شعركِ وتطرقين بابكِ وتضربين الأرض ضربًا، فلما آيستِ من الخروج وغلبكِ اليأس وملككِ الحزن؛ أرسلتِ نفسكِ على سجيتها، وصرتِ تندبين وتولولين وتهزين وتدعين عليهما أدعيتكِ الساذجة، ثم أطرقتِ رأسكِ، وأسندتِ ظهركِ للحائط وذهلتِ، ولم يعد لكِ حاجة في مأكل ولا مشرب، وكنتِ كالطائر في القفص أو كالسمكة في الشبكة، ثم وهنت قوتكِ وأصفر لونكِ، وهزل جسمكِ، فرّق الناس لحالكِ وأظهروا العطف بكِ والرثاء لكِ، وأخذوا في عتاب أختيكِ ومجادلتهما، لم يدعاهما إلا بعد أن فتحوا عليكِ بابكِ، فانطلقتِ تعدين وتعدين، كأنما جنبيكِ استحالا جناحين تطوفين بهما ما فاتكِ أيام سجنكِ، وأخذتِ تملئين رئتيكِ بالنسيم وتعَبَّين من الماء المعين.
أتذكرين؟ كم كنت أخافكِ وأنا غلامًا حدثًا؟ وكنت إذاك قد كلفت "بالطقوشة" ذلك البلح الأخضر الذي سقط عن عرجونه قبل أوان نضجه، فأغدو لأتلقطه من بين أشجار النخيل الباسقة، وأطرد الماعز والشياة ضنًا به وأستأثارًا له دونها، حتى إذا رأيتك قادمة تمشين مشية الطرب، تضحكين ضحكاتكِ البلهاء، وتدنين مني رويدًا رويدًا، يصيبني الخوف والرعب، واضطربت اضطرابًا عنيفًا، وأفر منكِ، وقد سقط بلحي من علبتي مجموعًا أمام السوائم بعد أن كان منتثرًا، هل كنتِ إذن نصيرة الماعز والغنم؟!
أتذكرين؟ حين تسامعنا بخسوف القمر؟ فارتجت البلدة وهرعنا إلى الشوارع وهرع الصبية أشباهي وأنتِ معنا مندفعة النشاط، وخرج أخلاط الناس كبيرهم وصغيرهم، شيوخهم وفتيانهم، نساءهم وبناتهم اللاتي أدركتهن ميوعة الشباب، وكنا ما بين مستصرخ ضارع لاطم، ومتفرج مازح لاه، وأخذنا نطوف حول البلدة مرات ومرات نضرب العصي بالتنك، ونطرق الصفيح بالحصى، ونقرع الأواني والحلل، والملاعق بالصحون ونضرب الدفوف والطبول، ننظر إلى القمر وقد اسود وجهه، وقلوبنا لمنظره وجلة هلعة مذعورة، لأن القمر مخنوق ولا بد من فكاكه وإنعاشه، وإلا قامت الطامة في تلك الساعة، وأنا جواركِ في الزحام أذرف الدموع السخية، وأسمع صراخكِ وهمهمتكِ، وأنتِ ترسلين أنفاسك العميقة، وتصلين شهيقكِ بزفيركِ، فأزاد فوق الروع روعًا ومع الوجل وجلَا.
يا ترا من ذا الذي يخنق القمر؟ إنهن بنات الحور، ولا بد من صرفهن عنه، لذا كنا نخلق الضوضاء بطرقنا وقرعنا لردهن وصرفهن، ونلهج الحناجر بذلك النشيد الشجي استعطافًا لهن بأصوات صادقة مكدودة ممزوجة بصوت الطبل والنقر والصرخ:
يا بنات الحور سيّبوا القمر ……. دا القمر مخنوق ومعندناش خبر ،
ثم نتوجه إلى الله بالضراعة والابتهال أن يرحمنا ويمهلنا فرصة للتوب ويؤجل القيامة فنقول: يا رب … ارحم عبيدك … يا رب … احنا تحت ايدك … يا رب
ثم لا نرجع إلى بيوتنا إلا بعد فكاك القمر وإنقاذه ونحن منهكين ومعفرين بالأتربة، ثم نستأنف حياتنا نخطئ فيها ونصيب، نعصي بها ونتوب لأن القيامة قد أجلت، بربكِ هل كنتِ تعلمين حينها -ونحن نأتي بمثل حركاتك ونستصرخ كصراخك- أنكِ كنتِ العاقلة ونحن البلهاء؟.
أتذكرين؟ حين أرسلتني أمي لشراء حاجة لها من دكان "صديق عابد"، وكان دكانًا ذائع الصيت، جمع فيه صاحبه جليل البضائع وحقيرها، ما عز وجوده وما ندر، فإذا أنتِ تتناوشين وتتشاكسين مع بعض الصبية، يكرون عليكِ أو يفرون منكِ، وأنتِ طالبة لهم أو هاربة منهم، فانضممت إليهم وأتيت فعلهم، وأخذنا في مكابدتكِ ومكايدتكِ، وأنشأنا نغيظكِ بتلك العبارة الآثمة البذيئة: "نوال العبيطة شخت في الخريطة"، وأنتِ تردين بشتائمكِ الساذجة "موت"، "أم الكبة"، "غور" تريدين "يا رب تموت ويا ابن الكلبة"، ثم ترمين بحجر فيصيبي في أم رأسي من دونهم، تا الله ما كنت أبدًا أنت تلك الرامية.
أتذكرين؟ حين كان يمضي شطرا من ربيع الأول، ويحل أوان الاحتفال بالمولد النبوي، فكنتِ تخرجين مع الخارجين وتخوضين مع الخائضين، ونخرج نحن الصبية معكِ، لنشهد احتفال الصوفية والمتمصلحون والمتعبدون بتلك المراسم، وهم يطوفون حول البلدة ومعهم أعلامهم وراياتهم المختلفة الألوان والأطوال والمزينة بالخطوط والرموز، بآيات وأذكار وأهلة ونجوم، وهم ينشدون أناشيدهم ومدائحهم وأذكارهم الشجية، ويتمايلون ذات اليمين وذات الشمال، والناس حولهم بين معتقد ومتفرج، وناثر للحلوى وجامعها، وكنا ندور مرة مع "طائفة الزاهدية" ذوي الرايات الخضر، ومرة أخرى مع "طائفة الميرغنية" ذوي الأعلام الحمر، وكنتِ تغتبطين بهذا المنظر الشائق أشد الاغتباط تقلدين الأناشيد في تعتعة مرهقة وتهتهة مضحكة، وقبل ذلك أو بعده كنتِ تشهدين معنا احتفال الصوفية بمولد الشيخ "براهيم"، وكان مهرجانًا وعيدًا للبلدة، تضرب فيه الخيام والسرادقات، ويجتمع له أهل الحيَّل والّعب والملاهِ وأصحاب الأراجيح، وباعة المآكل والمشارب من الحلوى والحمص وما شابه، وتعقد حلقات الذكر والإنشاد وحومات السماع والطرب، والخدمة والمضايف، ويجتمع لذلك خلائق لا تحصى من البلدة ومما جاورها، يجتمعون للذكر وزيارة المقام والهو والمجون والعبث، وكنا نحن الصبية نختلف بين المضايف نأكل "النابت" ونعب من مائه المملح اللذيذ، ثم نذهب للفرجة ثم نعود للنابت مرة أخرى، حتى إذا امتلت بطوننا؛ وغلبنا النوم؛ نمنا في أى مكان شئنا، فما أكثر النائمين الغرباء في الطرقات والخيام والفسحات، وكنت أنتِ تختلفين بين حلقات الذكر وتطوفين هنا وهناك، وأنت فرحة جذلة، فهو عيدكِ الذي فتنتِ به وكلفتِ به أشد الكلف.
عندما كبرت:
هكذا كنت أخافك صغيرًا، فلما كبرت علمت كُنهَ أمركِ وفهمت علتكِ، لم أكن أجزع لمرآكِ، فما أنتِ إلا سيدة مسكينة لا عقل لكِ، تحتاجين للعطف والرفق، وصرت أرمقكِ بعين الراصد، فأجدكِ دخيلة كل بيت، حبيبة كل امرأة، تأنسين الناس ولا تنكرينهم، والكل مجمع على حبكِ والتقرب إليكِ، ويهابونكِ، تجتازين بيوتًا وشوارعًا، باسمة أو عابسة، ضاحكة أو باكية، نافرة وثائرة تارة، هادئة ووادعة تارة أخرى، تخطر لكِ الخاطرة فتنطلقين كالسهم، وتكدين لذلك الخُطا، لا تلوين على شيء، كأنكِ تقصدين موعدًا تحرصين عليه حرصًا، ثم تعودين فجأة هادئة مطمئة هينة بلا شيء، وتدعين لقومٍ وتعرضين عن آخرين، وقلبك لا يحمل غلًا ولا موجدة، لا تعرفين شرًا ولا حقدًا، إنما ترُدين على مشاكسة الصبية لكِ بميل ما يأتون مشاكلة لهم وتقليدًا، ولا تكشفين عورة دار دخلت فيه، ولا تبوحين بسر اطلعت عليه، ولا تقدمين على سرقة أو خائنة عين، لأن الفطرة تأبى هذه الفعلة، وكنت تفرحين في أفراح الناس ومسراتهم، تبتأسين لأحزانهم وأتراحهم.
وانظر إليكِ فإذا أنتِ ربعة القامة أقرب إلى البدانة، ممتلئة الوجه وارمة اليدين، كالنحلة تذهبين وتجيئين، لا تتعبين ولا تهدأين، وملابسكِ الساذجة تعزف إيقاعًا مضطربًا ومتمردًا، تجمعين فيه ألوانًا مختلفة ومؤتلفة، متقاربة ومتنافرة، زاهية وباهتة، قديمة وجديدة، ويعلو قصير ملبسك طويله، وممزقه فوق جديده، ربما لبست للصيف ملابس الشتاء أو للشتاء ملابس الصيف، وتنتعلين وأنت مصبحة خفًا جديدًا، فيمسي خشنًا باليًا، وكنت تحبين ذياك الشال المهدَّب، والحُلة ذات الثنايا والطيات الكثيرة، التي تسميها القرويات "جلابية بسفرة وكورنيش" حدها إلى الركبة، ثم تسبلين على ساقيك سروالًا بسيطًا، وتمسكين في يدك شيئًا من فاكهة أو بعضًا من الحلوى، أو قطعة قماش هدية زيجة أو سلامة وصول من حج.
وكنتِ دوما قانعة لا طامعة، ترفضين الأكل بعد شبعكِ وفإذا عرض عليك طعام كنتِ تقولين "بني" تريدين "بطني ممتلئ"، ولكنكِ كنتِ تدركين أن رد الطيبين يحزنهم يؤرق بالهم، فكنت تأخذين منهم عروضهم، ثم تمنحين ذلك لخير في صبي توسمتيه، أو لجوع في سائمة شعرتيه، وكنتِ تحبين الموالد وتنقطعين بسببها أيامًا تغيبين عن البلدة، وإذا سألك سائل عن غيابكِ، كنت تجيبين بتأتاة مضعضة: "كت أ مولد".
ولم تنسين أنك "زهرة" ولكنكِ زهرة رائحتها كرائحة بخور المقامات والأضرحة، فكنت تشغفين بما تشغف به النساء، وتحبين ما يحببنه، فشغفت أشد الشغف بالحلى البسيطة، فكنت تحلين جيدكِ بالبسح والعقود والخرز المختلفة الألوان والأطوال، وتزينين معصمكِ بالأساور الزجاجية والبلاستيكية الساذجة التي تسمى "غوايش"، ويحلي قدميكِ حجلًا فضيًا لامعًا وثمينًا.
ولأن طبيعتكِ ثابتة لا تستترين خلفها؛ فقد كان وجهك البسيط مرآة سريرتكِ السليمة، وعنوان دخائلكِ النقية، فلا تظهرين ما لا تبطنين، ولا يصيبكِ الطمع والشره، ولا تخوضين في الغيبة ولا في النميمة، ولا تعمدين إلى الكذب والمصانعة، ولا تتملقين أو تتزلفين، ولا تأتين بما تأتي به النساء المتأنقات الغنجات بجمالهن وشبابهن، فلا تتزينين، ولا تعرفين لغة العيون والحواجب، ولا تتكلفين في مشيكِ أو تتمايلين، ولا تتخذين الملبس فتنة يصف جسمكِ ويدوره، فلما مضت بكِ الأيام بدت على قسماتكِ أثر السنين، ودب الشيب في تجاليدكِ وتجعدت جبهتكِ، وقلت حركتكِ، وهدأت أنفاسكِ.
أتذكرين؟ مشيتكِ التي كنتِ تمشينها وبها نفحة من ترنح؛ والبلدة يومئذ تجمع بين التاجر الموسر والعاطل المبتئس، والمالك البخيل، والمرابي المقتر، والفقير المحسن، الكل مجمع على حبكِ، ويلتمسون عطفكِ ويسترحمونكِ، ها أنت ذا تمشين مشيتكِ المعهودة، فيدعوكِ رجل طوالًا ويدعى "محمد هُرة" يجلس في "قهوة بهروز" لكوب من الشاي فتُعرضين وتمضين، ويناديكِ التاجر الموسر "الحاج محمد عثمان بطيخ" لدخول بيته والجلوس على مصطبته، ويعطيكِ نقودًا ورقية ويقول: "ادعلينا يا شيخة نوال"، فتأبين قبولها وتقولين: "دش" تريدن قروشًا فضية، وتمضين فتقابلين "الحاج هاشم أحمد بخيت" فيناديكِ بصوته المائل إلى النحولة والبحة: "بركاتك يا شيخه نوال" وتردين عليه: "أأ واد فلانة" أي تذكرين اسم أمه ردا على مناوشته.
ولكن وجهكِ ينطلق بالبشر، وتنفرج أساريركِ، وتستطيرين فرحًا، حين تشاهدين "الحاج محمد عمر درويش" ذلك البشوش الضحوك، فيناديكِ مفخمًا كل الحروف: "تعال جنبي يا شيخه نوال" فترفضين أولًا بقصد معاندته وإطالة مشاكسته، وأنتِ مبتهجة أشد الابتهاج، ثم تأوين إلى جواره كالطفل جذلة مسرورة، ويأخذ هو في ملاطفتك بقوله: "يارب تموتي يا شيخه نوال" فتردين عليه بقولكِ: "أ رب موت أنته حمد"، "شالله أجيك عيار حمد"، فيقهقه قهقهة عظيمة تجعلكِ تأتين بحركات في الوجه والبدن؛ تدلين بها على الدعابة والمرح، ويقول لكِ: "ادعي عليه تاني يا شيخه نوال"، تالله إنه يتخذ من دعائكٍ عليه حرزًا يتقي به عثرات زمانه وصروفه.
وتقابلين رجلًا من أهل الثراء والسعة، ظلومًا غشومًا، غليظ القلب مظلم الوجه، فتعرضين عنه لأنكِ تبغضينه وتنكرينه، وتمشين بعد رؤيته مبتئسة حزينة لإنك تكرهين الأفاعي والسموم، حتى إذا رأيتِ "الحاج عبد الحفيظ محمود مصطفى"؛ تغير حالكِ وتهلل وجهكِ، وتندفعين نحوه فرحة داعبة، لأنه استأثر بقلبكِ، اختصتيه بحبكِ، حبًا كحب الفتاة والدها، إذا تكلم اصغيتِ لكلامه، وإذا ابتسم بادرت بالضحك، لأن منزلته عظيمة في فؤادكِ، فتنادين عليه: "أبو دن" أي: "يا أبو دقن"، فيهش للقاءكِ ويأخذ بيدك ويدخلك داره، تقضين معه أجمل وقت في هدوء وصفاء، وتأكلين معه بيضًا مقليًا في السمن ممزوجًا ببعض جبن طازج، ثم تمضين فتعبرين شريط القطار الحديدي غير عابئة بخطره، ووجهتكِ قوم يسكنون إلى الغرب منه.
أغلق عينيك صاحبي وقارًا وهيبة:
أتذكرين؟ يا شيخة نوال حين دخلت بيتًا، ربته سيدة شابة رفهة مدللة، كانت منهمكة في عجين لها تعجنه، فلما رأتك انتفضت قائمة وهشت للقاءكِ، وأخذت تمسح ما معصميها من العجين وتقول لك بصوت عطوف حنون: "تعالِ يا شيخة نوال، تعالى يامي، اسم الله يا اختي!"، وتجلسكِ جوارها ثم تعود لعجينها تكمله، تملكه ملكًا قويًا، فترفعه ثم تهوي به في بطن "الماجور" فيحدث فرقعة عظيمة، ثم تغطيه وتنظر إليكِ باسمة وتقول: "جعانة يا شيخة نوال؟"، فتهزين رأسكِ أن: "لا"، ثم دنت منكِ، وأخذت بيدكِ ووضعتها على بطنها كي يمس كفكِ جنينها البارز، وأخذت تسألكِ: "واد يا شيخه نوال؟"، "أااه نفسي أخاوى البنات"، وتقسم قائلة:"عارفه لو جه واد هجبلك جلابية إن شاء الله"، وأنت تضحكين ضحكتكِ تلك الدالة على الشذاجة البله.
ثم تأخذ ماءً ساخنًا من فوق أتونها المستعر، وتقول لكِ: "تعالي اسبحك يا شيخه نوال"، إن هذه السيدة التي تتأفف من بعض ما تأتيه أطفالها من مخاط وغيره، لا تجد غضاضة في خدمتكِ، ها هي تجلب طشطها النحاسي، وتدخلتكِ حجرتها القاصية، ثم تنزع عنك ملابسك المتربة، وتأخذ تصب الماء الدافئ على جسدكِ المتعب، وتقوم بما يلزم وهي راضية باسمة، ثم تلبسكِ من ملابسها جلبابًا كانت قد أهملته أو ملته، وترش الماء الذي غسل بدنكِ في فناء دارها، ضنًا به أن يجري في أقنية الصرف وأسربته القذرة، وها أنت ذا تخرجين نيرة الوجه هادئة النفس، فتمضين وتمضين.
الوفاة:
ولما جاء ميعادكِ، وحان وقت لقاءكِ، كتب الله لكِ الشهادة، كان ذلك قبيل مغرب يوم من أيام رمضان في عام يقابله سنة 1996م، فسعيتِ إلى مكان حتفكِ، واثقة بقضاء الله مستسلمة لأمره، تتهادين في مشيكِ، تريدين اجتياز شريط القطار الحديدي، فقال لك أحاد الناس: "خدي برتكانه يا شيخه نوال" فقلتِ: "سامنه" تريدين أنك صائمة، ومضيتِ، فجأة ! تعالت الأصوات: "ارجعي يا شيخه نوال القطر جاااي"،"حاسبي يا شيخه نوال، يا ساتر يا ساتر لا حول الله" ، أأنتِ بلهاء حتى ترجعين عن ميعاد الجنة؟، وهل كان لكِ خيرة من أمركِ؟، مسكينة أنتِ!، لقد صدمكِ القطار في قدمكِ فأحدث به جرحًا نافذًا، وأخذت تحشرجين وتغرغرين، ثم فاضت روحك وسكنت أنفاسكِ سكونها الأخير الدائم.
تسامع الناس خبركِ فأصابهم الذهول، وتكدرت خواطرهم ورجموا بالظنون، وفزعوا إلى الشك يدفعون به هول الخطب، وهرعوا إلى المشفى حيث كانت جثتكِ، وانتظروا خروج نعشكِ مطرقي الرءوس ساهمي الوجوه، ويعلوهم الوجوم، ويغشاهم الصمت والسكون.
خرج نعشكِ يسير سيرًا معتدلًا لينًا، فإذا بقائل: "فين بركاتك يا شيخه نوال؟"، فاستدار نعشكِ بغتة ولوى الناس فجأة، وانطلق كالسهم نحو البلدة، وسار كالطير لا يمكن رده، بحيث كان حاملوه متعلقين به يجرون خلفه، والناس تجري وراءه جريان الطالب للهارب، ويندفعون اندفاع السيل الجارف، والخليقة تصيح بأنفاس مكدودة، كأنفاس الخيل الشاردة: "شهدنالك يا شيخه نوال" ولكن نعشكِ أبى أن يرجع ومضي ليتم دورة حول البلدة كاملة، والناس تجري خلفكِ وأنا فيهم أنثر شهاداتي، فتهتز الأرض من وقع أقدامهم، وعلو صياحهم، ودوي صراخهم، وحفيف ثيابهم، وهم ما بين قائل: "لا إله إلا الله"، "الله أكبر الله أكبر"، ومردد "اللهم صل عل النبــ اااااـي، ما شاء الله"، وآخرين يتبارون أيهم يمس نعشكِ، والنساء قد علين الأسطح وأخذن بالنوافذ، وهن يزغردن ويرجّعن ذيالك الصوت ترجّيعا، وأطلق البعض أعيرة نارية توقيرًا لهذه الكرامة حبًا لهذ الآية.
ها قد أناخ جملكِ المتعب في رمسكِ الدائم، وقر طائرك الهائم في عشكِ الأبدي، واستقر بدنكِ في مقامكِ النير، وفارقت حياة البؤس والشقاء، لتنالي جزاء الشهداء، ولا تدرين أن القوم رفضوا تقبل عزاءً فيكِ، قالوا أنتِ بنت البلدة كلها، ورضوا أن يقيموا ليلة ذكر وإنشاد لجنابكِ، طافوا فيها حتى أدركتهم ثمالة الجذب، وأنا واقف أنظر الصفوف وهي تتمايل والمجذوب هو يتصايح، فأخذت أرسل عبراتي وأتنهد تنهيدًا عميقًا، أسفًا على الزهرة التي يبست والفطرة التي دفنت.


