مرت الثورة المصرية منذ تنحي مبارك وزوال حكمه في الحادي عشر من فبراير 2011 بعدة أزمات متوالية، شكلت المشهد السياسي
مرت الثورة المصرية منذ تنحي مبارك وزوال حكمه في الحادي عشر من فبراير 2011 بعدة أزمات متوالية، شكلت المشهد السياسي ووضعت المجتمع المصري في حالة من الإحباط والقلق المستمر، وأضاعت على مصر فرصاً حقيقية في التغيير وبناء مجتمع العدالة الذي نصبو إليه جميعًا.
تشكلت هذه الأزمات في عدة جبهات تمسك بزمام المشهد السياسي، أهمها:
– أزمة قيادة عسكرية يفترض أن فقه القيادة يجري في دمائها ولكنها تراهن على ما مضى ولا تقدر قيمة الظرف التاريخي الذي وضعها موضع ثقة الشعب فلم تحسن استغلال الفرصة وفقدت الفرصة التاريخية وثقة الشعب واحترام العالم.
– أزمة شرطة ظلت طوال عهد مضى تنظر للمواطن على أنه خادم يؤمر فيطيع، ولما عصا سيده وثار عليه فلابد من تأديبه وقرعه بالعصا أو قتله بالغاز المسيل للدموع أو بالرصاص، ولم تقدر تلك القيادة فرصة الرغبة في فتح صفحة جديدة والمصالحة بين الجهاز الأمني والشعب في إعادة هيكلة هذا الجهاز بلا مقاومة متوقعة من الفاسدين، فظهرت النوايا والمخططات لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
– أزمة شباب ثائر ظن كل واحد منهم أن الثورة هي رفع الصوت وحشد المظاهرات، والسخرية ممن يختلف معه، والقدرة على حشد "الفولورز" على تويتر، فلم يسع للتقارب مع القوى السياسية التي تملك الشارع فخسر الإثنين معًا، وظل يخسر كل يوم سلاحا من أسلحة الثورة السلمية: الحشد والاعتصام وأخيرا العصيان المدني، فهدم نظام ولم يفلح في بناء نظام جديد.
– أزمة نخبة لا تقدر مصالح الوطن وأولوياته، بقدر حرصها على الاستحواذ على ساعات البث المباشر على الفضائيات المؤدلجة، وتوجيه الرأي العام للانتحار!
ومع كل تلك الأزمات التي ذكرناها وغيرها، كانت محاولات القضاء على الثورة تظهر الواحدة تلو الأخرى، وقد استخدمت فيها العديد من الاستراتيجيات التقليدية في إخماد الثورات، وظهرت في صورة مراحل متتابعة أو متداخلة:
– الاستراتيجية الأولى: تفريق القوى الثورية (فرق تسد)
وقد أتت تلك الاستراتيجية بمالا يشتهي أعداء الثورة، فرغم نجاحها في التفريق بين القوى السياسية والثورية إلا أنها صبت في اتجاه القوة الأكبر في الشارع وهي (التيار الإسلامي) فانحاز الشعب المصري له انحيازا كاملا في الانتخابات البرلمانية بشقيها (الشعب والشورى) فأصبحت السلطة التشريعية في يد التيار الإسلامي وعلى رأسه الإخوان ككيان منظم بدلا من التفتيت لكيانات غير منظمة كانت ستشكل خطرا على الوطن.
– الاستراتيجية الثانية: تلطيخ صورة الثوار بافتعال الأزمات (إثارة الحنين للماضي)
وقد ساهمت بعض الرموز الشبابية ممن شاركوا في الثورة في إنجاح هذه الاستراتيجية بجدارة بأخطاءهم المتكررة، إلا أن وجود عدد من الرموز الثورية وسط الشارع (إسلامية وغيرها) وتعبيرها عن مطالب الناس التي هي انعكاس لمطالب الثورة ورفضها لاستهلاك الحالة الثورية والاستدراج للعنف -كما يحدث في الميدان- أضعف من نجاح هذه الاستراتيجية جزئيًا.
– الاستراتيجية الثالثة: الفوضى والعنف الممنهج (الفوضى الخلاقة)
ماسبيرو.. محمد محمود.. مجلس الوزراء.. حوادث متفرقة.. وأخيرا ستاد بورسعيد، كل تلك المحاولات كانت للسعي نحو دفع الشارع لحرب أهلية وسط حالة من الانفلات الأمني الممنهج. ونظراً لطبيعة الشعب المصري التاريخية التي تقدس الاستقرار وتنبذ الفرقة، وكذك الوحدة العرقية النسبية للمصريين، كانت تلك العوامل حائلاً دون الانجرار لحرب أهلية غير مسبوقة بين أبناء وطن من تراثه الشعبي: (أنا وأخويا على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب).
والآن وبعد فشل الاستراتيجيات السابقة في وأد الثورة، جئنا للاستراتيجية الرابعة، وهي (الاغتيالات السياسية وتصفية الرموز).
وهذه الاستراتيجية تعتبر البطاقة الأخيرة لأعداء الثورة، حيث أنه عند العجز عن قتل فكرة فالحل هو قتل صاحبها. وهذا هو المبدأ الذي انتهجه الكثيرون عبر التاريخ.
ولكن هناك عامل مهم يحبط أثر تلك الاستراتيجية الدموية، ألا وهو عمق الفكرة ذاتها، فسنن التاريخ تثبت لنا أن الأفكار العميقة لا تقتل بقتل مؤسسها بل تزيدها نضوجا وترتفع بها من الأرض إلى السماء. فقتل حسن البنا وسيد قطب وأحمد ياسين وغاندي ومالكوم إكس وغيرهم، لم ينقص من تأييد أفكارهم بل نقلها من موضع التنظير والبناء إلى موضع التنفيذ والانتشار.
وكلما كانت الأفكار حية وقوية، كلما زادت الضربات لها، والعكس صحيح أيضًا فكلما زادت الضربات زادت الفكرة العميقة قوة ورسوخاً.
الثورة إذن في طريقها للنجاح بإذن الله -رغم ما قد يتعرض له هذا الطرح من السخرية والتهكم- وتخطي هذه المرحلة يؤذن بميلاد عهد حقيقي من الاستقرار والنهوض، ولكنها معركة عض الأصابع والنفس الطويل.
والمقاومة في هذه المرحلة تحتاج مع النوايا الطيبة والأمل في المستقبل إلى استراتيجيات عملية خاصة لضمان نجاح الثورة، ومنها ما ذكره الباحث الموريتاني محمد المختار الشنقيطي، وهي:
(1) صلابة الإرادة والتصميم لدى الثوار.
(2) الحفاظ على الصورة الناصعة للثورة.
(3) وحدة الصف والتلاحم بين القوى الشعبية.
(4) حسن التسديد إلى مراكز ثقل النظام.
(5) الوعي بأجنحة النظام المختلفة ومخططاتها.
(6) تقديم البديل السياسي حتى لا تجد فلول النظام فراغا للتمكن.
(7) رفض السقوف الواطئة والتغييرات الشكلية في النظام.
(8) التمسك بمنطق المغالبة لا المطالبة.
وأولا وأخيراً:
(وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) [الأحزاب : 22]
———————————–
** محمود تقي
باحث إعلامي
mahmoudtaki@gmail.com