أخبار
ممتاز محل ..امبراطورة خلد زوجها اسمها باحدي عجائب الدنيا السبع
تقرير : حسام خليل
يشتهر العصرالمغولي بتطوراته الثقافية متعددة الأوجه. وللعائلة التيمورية المالكة تقاليد ثقافية عظيمة حيث قامت مملكة أسلافهم في سمرقند التي كانت أرضاً التقت فيها ثقافات وسط وغرب آسيا. أحضر المغول معهم إلى الهند التقاليد الثقافية الإسلامية من الأنحاء التركية الإيرانية لتطلق شرارة تطور الثقافة الإسلامية الهندية.
كانت السيدة التي نتحدث عنها ذات مولد رفيع الشأن، فهي حفيدة ميرزا غياث بيك (والد الإمبراطورة نور جيهان)، رئيس وزراء الإمبراطور المغولي الرابع جيهانغير ، وابنة خواجة أبو الحسن الذي كان يعرف في بلاط جيهانغير بلقب يامن الدولة عاصف خان- رحل ذو طلعة مهيبة ويحظى باحترام كبير. كما كان طموحاً أيضاً ولهذا لم يكن مفاجئاً أن عينه جيهانغير رئيساً لوزرائه بعد موت ميرزا غياث. هكذا كانت نشأة أرجوماند بانو بيغوم، التي عرفت لاحقاً باسم ممتاز محل، ابنة عائلة من أشراف القوم. ولدت ممتاز عام 1594. وحين بلغت سن التعليم بذلت عائلتها جهداً كبيراً لتمكينها من تحصيل تعليم طيب وتلقينها آداب البلاط. ولما كانت تتحلى به من جمال أملت عائلتها أن يكتب لها المجد مثل عمتها نور جيهان وأن تحوز على مكانة رفيعة في بلاط إمبراطور الهند.
حين أنهت ممتاز تعليمها وبلغت سن الزواج، كان صيت جمالها قد تجاوز حدود مخدعها النسوي وأصبحت محاسنها حديث علية القوم. وفيما كان الأمير خورام، ابن الستة عشر عاماً وإمبراطور المستقبل شاه جيهان، يتمشى في سوق المينا الملكي وقعت عيناه على ابنة رئيس الوزراء الجميلة التي كانت في الخامسة عشر من العمر. وأسرع الأمير الذي أخذه جمالها إلى أبيه في اليوم التالي طالباً الإذن بالزواج منها وهو ما حصل عليه فعلاً. كان حباً من أول نظرة. غير أن زواج خورام من أرجوماند لم يكن شيئاً سهلاً كما قد يظن المرء. ذلك أن الزيجات من بعد حب لم تكن شيئاً مألوفاً في قصور الهند في القرن السابع عشر. فالزيجات الملكية كانت تتم لأسباب سياسية أو لتعزيز التحالفات العسكرية أو لتقوية الروابط العائلية أو لغيرها من الأهداف المشابهة. وهكذا كان الأمير خورام في العام التالي يتزوج من أميرة فارسية..غير أن الإسلام يسمح بتعدد الزوجات، وبالتالي فإن الفرصة للزواج بأرجوماند لم تضع مع أن الأمير التزم فعلاً مع زوجته الأولى. وبمرور خمس سنين وبعد أن قال منجمو البلاط بحساباتهم الفلكية إن الوقت مناسب لعقد القران، أقيم الزفاف المنتظر أخيراً في بيت ميرزا غياث. كان حدثاً ضخماً حتى بالمعايير الملكية. فما إن بدأ موكب الزفاف يشق طريقه نحو بيت أرجوماند، حتى أخذ العازفون والراقصون والبهلوانيون يسلون الحشود. وارتدى رجال الدولة أثوابهم الحريرية الموشاة بالذهب. العبيد يقذفون باللهب في الهواء والعوام تحمل المشاعل وأصحاب الطرق الصوفية يرتلون أناشيدهم. حضر إمبراطور الهند الزفاف شخصياً وقام بنفسه بشكل عقد من اللؤلؤ على عمامة العروس. وحتى يظهر تقديره الكبير لزوجة ابنه أعطى جيهانغير اسم ممتاز محل لأرجوماند والذي يعني "التي اختارها القصر"
بعد الزواج كان الأمير وممتاز يقضيان معظم أوقاتهما معاً. وسرعان ما أصبحت ممتاز محل مستشارة زوجها لشؤون السياسة وتقدم العون للأرامل واليتامى والعائلات الفقيرة.
العلاقة القوية التي جمعت شاه جيهان بممتاز محل جعلت الإثنين رفيقين لا يفترقان داخل البلاد وخارجها وكانت مشورتها وحكمتها دوماً في شؤون السياسة ذات فائدة عظيمة لشاه جيهان. ونجح الاثنان في تسيير أمور إدارة البلاد على أحسن وجه حتى عام 1916. حتى ذلك العام كان الزوجان يحظيان بدعم الإمبراطورة نور جيهان التي ضمن نفوذها في القصر حياة هانئة لهما. غير أن شير أفغان خان ابنة نور جيهان من زوجها السابق تزوجت الأمير شهريار الأخ الأصغر لشاه جيهان وابن جيهانغير الأصغر من زواج آخر. وهكذا تخلت الإمبراطورة التي كانت دوماً صاحبة نفوذ في شؤون الدولة عن شاه جيهان وبدأت تدافع عن صهرها لمساعدته في الفوز بالعرش بعد أبيه. وأخذت تستخدم دهاءها لبث الشقاق بين جيهانغير وشاه جيهان.
ونجحت في مسعاها فعلاً. واستطاعت أن تقنع الملك المطواع بتوبيخ ابنه العزيز توبيخاً قاسياً. ورغم محاولات شاه جيهان المخلصة لاستعادة ثقة وحب أبيه إلا أنها باءت بالفشل. وهكذا اتسعت الشقة بين الولد والوالد وبلغت مرحلة ما عاد ينفع معها أي إصلاح. وأرسل جيهانغير وراء ابنه بقوه على رأسها الأمير برويز ومحبت خان لإجباره على الانصياع.
في ذلك الوقت كان شاه جيهان يعسكر في برهانبور باحثاً عن الأمان بمهربه. ثم أصبح لاجئاً في قصر ملك ديكان ثم في البنغال. استمرت غضبة جيهانغير ثماني سنوات، قضاها شاه جيهان كئيباً وقلقاً بدون استقرار. يقال إن الشدائد امتحان الأصحاب. وفعلاً هذا ما حصل حيث هجره كل أصحابه وهربوا بعد أن كانوا قد أقسموا له أن يحموه بسيوفهم. واستمرت حاله على هذا المنوال حتى عام 1627 حين توفي والده الذي كان مريضاً بالربو.
جلس شاه جيهان على العرش بعد حرب دموية على الوراثة. فحين موت جيهانغير لم يكن لديه سوى ولدين بين الأحياء، شهريار وشاه جيهان. لكن شهريار، صهر نور جيهان، كان مريضاً جداً حينها. غير أن هذا لم يمنع نور جيهان من السعي ولو عبثاً لجعله يعتلى العرش. إلا أن شاه جيهان بمساعدة حماه استطاع أن يحوز الملك.
احتفل بتتويج شاه جيهان في كل أنحاء الإمبراطورية. وحضر الحفل رجال الأدب والدين والأشراف وأهل الحكم. وعلى حسب العادة وزع شاه جيهان أثواب التشريف على الحاضرين. وبعد حضوره مراسم تتويجه، أسرع شاه جيهان إلى جناح النساء حيث كانت زوجته ممتاز محل، الإمبراطورة الجديدة، قد أقامت حفلاً بهياً على شرفه. ووزعت صواني الجواهر والذهب على الفقراء بهذه المناسبة. لم يكن لفرحة الزوجين حدود بعد المعاناة الطويلة التي عاشاها. وأهدى شاه جيهان زوجته مئتي ألف قطعة من الذهب وستمئة ألف قطعة من الفضة وعزبة تغل مليون قطعة ذهبية سنوياً. كما أضاف على ذلك منحة سنوية تبلغ مليوناً ونصف من الجواهر تعطى لها في الذكرى السنوية الأولى للتتويج. وبعد ذلك بعامين زادها بمقدار مئتي ألف.
كان شاه جيهان حاكماً طموحاً شأن جده أكبر. كما اختار الشرفاء ليكونوا حكاماً على الأقاليم وقادة للجيش. ونبههم أن يكونوا عادلين في حكمهم للناس، حتى عرف في التاريخ بلقب شاهنشاه العادل" أو الإمبراطور العادل. كما كان يعمل لساعات طوال ويراقب كل تفاصيل إدارة الإمبراطورية. واستطاع أن يجعل الدروب آمنة للمسافرين وعاقب اللصوص وقطاع الطريق بقسوة. كما طور الزراعة والتجارة الخارجية. وجعلها عادة له أن يوزع عدة أضعاف وزنه ذهباً وفضةً مرتين سنوياً على الفقراء. وكانت نتيجة كل ذلك أن تحسنت أحوال الرعية وازدادت عوائد الدولة أضعافاً.
كان تتويج شاه جيهان فاتحة لازدهار العمارة في أغرا ودلهي. وما تميزت به هذه العمارة هو انتشار المباني الرخامية وهو ما دفع أحد الباحثين لوصف عهده بعهد الرخام. كما كان راعياً عظيماً للفنون وللرسم والعمارة المغوليين الذين جمعا التقاليد الفارسية والهندية ووصلا ذروتهما في عهده.
وفي عهد زوجها أصبح لممتاز محل دوراً فاعلاً في إدارة الدولة. كما كان شاه جيهان يستشيرها في كل قضايا الحكم المهمة، حتى إنه استأمنها على ختمه الملكي. وفي تلك الأزمان، كان الختم الملكي شيئاً بالغ الأهمية عند الحكام المسلمين. ويسجل التاريخ أن هؤلاء الحكام كانوا دوماً لا يعهدون بأختامهم إلا لشخص ذي نزاهة وولاء لا شك فيهما أبداً. ذلك أن أي كتاب يمهر بهذا الختم يصبح أمراً يستدعي الطاعة فوراً. لاحقاً نقلت هذه المسؤولية إلى يمين الدولة والد ممتاز بناء على طلبها.
كانت ممتاز محل امرأة رقيقة القلب بطبيعتها. ولهذا كان الضعفاء والبائسون يجدون فيها إنساناً ينصت لمشاكلهم بتعاطف. وكان اليتامى والأرامل والفقراء يحظون بأعطياتها التي أصبحت الوسيلة لتزويج بنات الفقراء زيجات كريمة. كما أنقذت رحمتها حتى المجرمين الذين أعفت بعضهم من الإعدام وأعادت آخرين إلى مناصبهم وحظوتهم التي خسروها بسبب سخط الملك عليهم.
هام شاه جيهان بزوجته وبنى لها جناحاً ساحراً في القصر وأغدق عليها الهبات والنعم. بل إنه كان يصطحبها معه في حملاته العسكرية. وفي إحدى هذه الحملات عام 1630 خرجت ممتاز معه وهي حامل بابنهما الرابع عشر. وماتت ممتاز محل في ربيع 1631 وهي تضع وليدها وكانت بنتاً. وعقب ذلك أمضى زوجها كسير القلب العقدين التاليين تقريباً وهو يعمل على إنجاز حلمها ببناء صرح يخلد ذكرى حبهما.
بعد موت ممتاز حبس شاه جيهان نفسه ثمانية أيام في قصره ليخرج للناس بعدها رجلاً آخر يختلف عن الذي كان عليه قبل أربع سنوات حينما اعتلى العرش. وبقي لعامين وهو يعيش الحداد عليها. حين إحضار رفات ممتاز محل من برهانبور حيث فارقت الحياة إلى أغرا عاصمة الإمبراطورية المغولية، وضع في حجرة دفن مؤقتة تحت الأرض على ضفة نهر جومنا. أما ضريحها الدائم فقد وضعت أساساته عام 1631 لينتهي بناؤه عام 1653.
لبناء هذه التحفة المعمارية الفاتنة استدعى شاه جيهان إلى بلاطه أرقى المواهب من كل أنحاء العالم. أتى المعماريون والحرفيون إلى أغرا من بغداد ومن القصور العثمانية في تركيا وقدم مصممو الحدائق من كشمير والخطاطون من شيراز والحجارون والنحاتون وحرفيو الجص ومصممو القباب والبناؤون من بخارى والقسطنطينية وسمرقند. طوال هذه السنوات كانت الاستشارات والتعديلات شيئاً متواصلاً يجري يومياً. والأهم من كل ذلك كان الإخلاص لذكرى ممتاز محل.
يعتقد أن المعلم عيسى أفندي من تركيا كان هو المسؤول عن تصميم المبنى. أما محمد خان من شيراز وعبد الغفار من مولتان فكانا خطاطي المشروع. فيما المسؤول عن النواحي الفنية والتصميم الداخلي كان قادر زمان خان من الجزيرة العربية. وباختصار حرص شاه جيهان على استخدام أعلى المهارات المتوفرة في عصره لبناء هذا الصرح العظيم. وكان كل من هؤلاء يحصل على راتب شهري كبير حتى اكتمل العمل. وبلغ عدد العمال الذين عملوا تحت إدارة هؤلاء عشرين ألفاً. وتطلب الأمر عشرين عاماً حتى اكتمل بناء تاج محل.
ولإرضاء هوس شاه جيهان الفني أتي بكميات ضخمة من الرخام الأبيض من راجستان والحجر الرملي الأحمر من دلهي. كما أحضرت الحجارة الكريمة بالقوافل من كل أنحاء الأرض: اليشب من البنجاب والعقيق الأحمر من بغداد والفيروز من التيبت والملكيت واليشم والكريستال من تركستان وغيرها من اللؤلؤ والماس والزمرد والصفير… أكثر من أربعين نوعاً من الأحجار الكريمة.
عبر أغرا وبني منحدر بطول عشرة أميال عبر أغرا لسحب مواد البناء إلى قمة القبة في موقع البناء. وكان المشروع من الضخامة بحيث أن مدينة ممتاز أباد تنامت حول المشروع لإيواء العمال الذين اشتغلوا عشرين عاماً لبناء الصرح.
وللتمكن من رفع القبة شيدت سقالة هائلة حيث تطلب هذا الجزء من المبنى على وجه الخصوص الكثير من الجهد والمال. ويقال إن القبة وحدها كلفت أكثر من باقي المبنى كله. وتقول الأسطورة إن شاه جيهان حين اقتراب تاج محل من النهاية قيل له إن تفكيك السقالة سيستغرق خمس سنوات. فما كان منه إلا أن أعلن أن كل من يرفع قرميدة تصبح ملكاً له، وإذ بالمهمة تنتهي بين ليلة وضحاها.
يجمع تصميم تاج محل بين العناصر الهندية والفارسية والتركية والبوذية بطريقة جعلت منه شيئاً جديداً بالكامل. واليوم أصبح تاج محل واحداً من أشهر الأيقونات البصرية. ورغم السحر الذي يلف جماله والقصة التي كانت وراء بنائه، فإن واجهته مألوفة لدينا جميعاً لدرجة تجعلنا ننسى أن تاج محل صرح يتميز بأصالة وتفرد مطلقين بالنسبة لزمنه.
في سبتمبر 1657 أعيا المرض شاه جيهان وفقد الأطباء الأمل بشفائه. بل إنه كتب وصيته. وحالما وصل خبر مرضه أولاده الأربعة، دارا شيكوه وشوجا وأورانزيب ومراد، أخذ جميعهم يعد العدة للاستيلاء على العرش. ولدى نجاح أورانزيب في هذا المسعى قام بسجن والده دون أن يسمح سوى لواحدة من أخواته أن تقوم على رعايته حتى وافاه أجله عام 1666 ودفن بجانب زوجته ممتاز محل.
يعتبر تاج محل اليوم واحداً من عجائب الدنيا وهو ينتصب وسط مساحات شاسعة من الحدائق على ضفة نهر يامونا في أغرا. ومع أن أشهر ركن فيه هو ضريح ممتاز محل بقبته الرخامية البيضاء إلا أن هذا المجمع الضخم الذي يمتد على مساحة 42 فداناً يتضمن أيضاً مساجد ومآذن ومباني أخرى.
وقد قال البعض إن شاه جيهان لم يكن ينوي أن يجاور زوجته في القبر وإنما كانت نيته بناء تاج محل آخر من الرخام الأسود ليكون ضريحاً له. إلا أن الكثير من الباحثين يرون غير ذلك ويعتقدون أنه كان يرغب فعلاً أن يدفن قرب ممتاز محل.