الأخيرة
في بغداد يا لجبروت الهم حين يخضع الهامة لسطوته، فقد كنت منقادًا له منذ أقلعت الطائرة ولم أتنبه إلا على
![](https://alhayaheco.com/wp-content/uploads/2024/07/19044...-604x470.jpg)
د. فرج الحسيني
أسير لدى داعش قصة قصيرة بقلم: د. فرج الحسيني
في بغداد
يا لجبروت الهم حين يخضع الهامة لسطوته، فقد كنت منقادًا له منذ أقلعت الطائرة ولم أتنبه إلا على صوت لين ورقيق يقول:""أيها السيدات والسادة نحن نطير الآن في سماء مدينة بغداد"!!!!!!
حقًّا إذن حسمت أمري وتركت وطني سعيًا وراء "لقمة العيش"؟، أصحيح إذن أن فرجًا قد ضيق عليه في وطنه؟!!إنها ضدية تبعث على الهزء والتنكيت،وتذكرت حين تخرجت من الجامعة وشرعت أبحث عن عمل في العاصمة فقال لي صاحب أحد المحال -وقد رق له حالي-:"فرج ومش لاقي شغل يا ابني؟!!"ومر بخاطري حال بلادي الذي لا يخفى حين طار مع الحرية إلى عنان السماء وثم غاض مع الأخرى في جوف الأرض، فزعمت الرحيل خوفًا من تبكيت المنادي يوم الدين: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}، ما هذه البضاعة التي أتاجر فيها-العلم- والتي كسد سوقها؟، يا رب لما لا تجعل طريق الخير سهلا كطريق الشر؟.
العراق؟! نعم ولم لا؟ أَعرِفُ أنها تموج بالصراع ويزورها الموت صباح مساء، وهل كل بلاد العرب إلا عراقًا كبيرًا؟ نزلت من الطائرة أتلفت فإذا السماء كسماءنا والأرض كأرضنا، وسمعت لأول مرة ألفاظ العامة ولحنهم وكلامهم المبتذل"شنو؟، هلا بيك هلا، خوش والله".
– مصري؟
– أيوه.
– هلا بيك هلا، ليش جاي العراق؟
– أنا متعاقد مع ………
– والنعم.
– ممكن توصلني فندق فلسطين.
– اصعد.
نزلت بغداد وأنا أتحسس موقع قدمي وكأني سأتعثر في رأس مذبوحة وعين تفور بالدماء، لقد حذرني سائق التاكسي من التجوال وقال الزم مقرك، ولكني لم آت لأكون حبيس الجدران، فما أن وصلت الفندق ووضعت حقائبي حتى غلبتني غريزة المعرفة وحب الفضول، فذهبت أتجول في شوارعها وابتدرتها بشارع المتنبي حيث تجارة الكتب على اختلافها، فأخذت أقرأ دلالات الأسفار المرصوصة؛ وزرت فيه مطبعة عتيقة ومدرسة قديمة تدعى مدرسة الموفقية.
وأثناء مساومتيأحد الباعة أحاول ابتياع كتاب ذي طبعة قديمة؛ إذ بشيخ في عشر الستين من العمر، ولكن عزمهعزم أبناء الأربعين ذي صوت رخيم شجي، يبدو عليه أنه من أهل الوبر، وجهه ضارب للسمرة منسق الشارب ويرفع هامته معتزا بشرفه ونبله،وعلى قسماته أثر السنين، يلبس الزي العربي ويغطي رأسه بكوفية وعقال، و سيجارة بفمه ينفث منه الدخان، فسألني بود وترحاب:
– "مصري خيي؟"
-نعم.
-الله يحييك، شنو بتشتغل؟
-أنا …………….
-أنا الشيخ موسى الزبيدي عراقي المولد والموطن؛ مصري الهوى والخاطر، فقد كنت طالبًا بكلية الآداب جامعة القاهرة في أواخر الستينات، وقد تخصصت في دراسة اللغات الشرقية، وجامعة القاهرة "أم الجامعات العربية" كانت مصنع رجال العلم والعمل والسياسة، وكانت تموج بالتيارات الفكرية والسياسية، ثم قال:هل لي أن أدعوك لتتناول القهوة في بيتي؛غير بعيدا عن هنا؟ وكنت قد علمت فضله وكبر نفسه ورقة مشاعره، فقلت: كيف لمثلي ألا يجيب دعوة مثلك؟!تفضل على الرحب والسعة.
سار الرجل يعتمد على عصاه فقطعنا شارعًا أو شارعين، ثم طرق باب دار من طابقين ونادى: يا صادق معي ضيف مصري، فتحت الباب سيدة في مثل سن الرجل،مسبلة الثياب تتوشح بوشاح السواد،وقالت: هلا ومرحبا،قال: هذه زوجتي فاطمة الجبوري أم صادق، فأومأت لها بالتحية،وإذا بمجلس الدار بسيطًا منسقًا على طريقة البدو ومفروشًا ببساط كبير؛ وموزع على جوانبه الوسائد والمخاد، وفي جانب كبير منه تقف مكتبة كبيرة تحوى أمهات كتب التاريخ والأدب، وبجانبها منضدة لطيفة للمطالعة، جلسنا فقدمت نفسي للسيدة، وذكرت لها سبب مجيئي، فقالت: أنت بين أهلك؛ فالشيخ موسى في مقام أبيك، وأنا في مقام أمك، قلت: بارك الله فيكما.
وأكمل الرجل كلامه عن ذكريات الجامعة وجاءت السيدة بعدة القهوة، وكانت تسمع حديثه وعليها علائم التأثر والحنين إلى تلك الأيام الخوالي،فأنشأ يقول: كانت أكثر التيارات الفكرية انتشارا في جامعة القاهرة تيار الشيوعية، مدفوعًا بتوجهات النظام المصري، وكانت التجربة الناصرية فتية، لما أصابته من توفيق وسداد في حركات التحرير ووقوفها ضد الإقطاع، ولكن الشباب المأخوذ بتجربة عبد الناصر ابن أسيوط لم يفرق بينه وبين خروتشوف ابن موسكو؛ ففشت بينهم أغلاط الشيوعية، وزلت أقدامهم في حبائلها، ومنهم من وقع في براثنها مما يعف لساني عن ذكره.
أما التيار الثانيفي الرتبة فكان تيار "الإخوان المسلمون" وكان شبابه مشدوهين بسيرة مؤسس الحركة وإحيائه الأمة من وهدة رقادها، ولكن حركته لم تصادف تطبيقًا عمليًّا، وكنت تعرفهم من التزامهم وعزة نفوسهم ولكنكان يغلب عليهم جمود الفكرة ووقوفهم عند رأي المؤسس، فكان ذينك التيارين نقيضين كالصبح المنبلج والليل المدلهم، وكالتقصير والإسبال، وكانت التيارات الفكرية آنذاك تثري التعلم ولا تعوقه، وأما أنا فقد كنت مأخوذًا بسيرة المفكر الكبير والشاعر الأديب عبد الوهاب عزام وبتآليفه عن شعراء الترك والفرس وجهاده في خدمة العلم في مصر والباكستان
وكنا نحن شباب البلاد العربية الأخرىنتأثربالحركات الفكرية والأدبية والأحداث السياسية في مصر، صعودًا وهبوطًا، فشهدنا صعود عبد الناصر وكبوته، والسادات؛ انتصاره وغيلته، وكان قادة العراق عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف كعبد الناصر والسادات.
أما زوجته فأنشأت تحكي عن ذكرياتها في القاهرة وسكناهما فيها وخصال أهلها، وأنها حصلت على درجة الماجستير في التاريخ الإسلامي موضوعها عن تاريخ البويهيين في بغداد، وأنها تابعت دراستها لنيل الدكتوراه في جامعة بغداد ونشرت مباحثها في مجلتي سومر والمورد العراقيتين، وقالت: نحن نتابع أخبار القاهرة كمتابعتنا أخبار بغداد، وأنها طالما ابتهلت إلى الله ألا تنكب القاهرة كما نكبت بغداد.
وقالت:أنا من عشيرة الجبور كبرى العشائر السنية،أما زوجي الشيخ موسى فهو من عشيرة زبيد كبرى العشائر الشيعية القاطنة جنوب العراق، وكان أبوانا صديقين حميمين تجمعهما وحدة الدين والوطن والبادية، ولم تفرقهما أضغاث المذاهب والفرق، فكان حمي-والد زوجي- رحمه الله يثني على الشيخين ولم يكن له حظ من التشيع سوى أنه كان يرى أن آل البيت ظلموا في مسألة الخلافة وأنه كان من الأجدر أن تعرض عليهم بعد وفاة النبي-صلى الله عليه وسلم-؛ فإن أبوها ابتدرها أبو بكر وعمر واحدا بعد آخر، وكان يحسب أن عليًّا -عليه السلام- كان سيردها لحجر الشيخين ردا جميلًا، قد رأى أبوانا في زواجنا تتويجًا لصداقتهما ومزجًا بين دماء المذهبين.
واستلم الشيخ موسى طرف الحديث فتكلم عن أعلام العراق في القرن الماضي كالعالم الموسوعي محمود شكري الألوسي، وبطرس عواد المشهور بالأب إنستاس الكرملي، ومحمد بهجة الأثري، وعباس الغزاوي وغيرهم، وتذكر أيام صباه فقال: كانت أسرتي من أهل اليسار،فوالدي كان يمتلك أراضي وبساتين ورياضًا وجنانًا، وكيف أن رؤساء العشائر كانوا يقطعون القفار والوهاد البعيدة، لتهنئته في العيدين، وكانت خيمته مقصد الواردين والصادرين والمحتاجين والمعسرين، ثم أخذ يقلب كفيه ويقول: لقد ضرب الدهر ضرباته وعبثت يد البلى فصارت بساتينناوأملاكنا قفرة جرداء موحشة، إلا قطيع من الشياهأملكه، وكيف استحال العراق إلى بلد العراك ومن الخلافة إلى الخلاف، وحكى أنه تلقى تهيدًا من المليشيات الشيعية والجماعات السنية لينفصل عن زوجته، فتركا الكوفة ونزلا بغداد؛ليلوذا بفسحتها واتساعها، وأنالعراق صبر على حكم صدام سنين مديدة ولكنه لم يصبر على الاحتلال يومًا واحدًا، وكانت سورية ملجأ لأهل العراق في الملمات؛ فلما وهنت اختل العراق خللًا وفتق فتقًا لا رتق له.
قلت: اعتقد أن حل هذا الاحتقان الطائفي يكمن في "طهرياض" فاستغرب الكلمة، وقال: عفوًا؟ قلت: هى كلمة نحتها من: "طهران والرياض"، فأعجبته وقال: نعم إن المكائد السياسية بين الدولتين تستخدم الطائفية لتحقيق مآربهما، وقد كنا نأمل بعد حكم صدام أن يحكم العراق رجلٌ وطنيٌ وسطيٌ يسمو عن الحزبية والطائفية،ولكن نوريًّا المالكيجاء لينتقم من قتلة الحسين في سنة العراق بعدتلك القرون والدهور،ثم قال وهو يهز رأسه حيرة وعجبًا: وما هذه البلوى المسماة بداعش الذين فر الجيش أمامهم، وخرت لصولتهم المدائن والقرى؛ولا يعلم الناس لماذا يخوضون الأهوال من يمدهم بالمال والعتاد، ثم حمد الله أنه وقى بغداد شرهم، وكانت الدكتورة قد تسللت إلى مطبخها وأعدت طعامًا افترشته أمامنا، فأكلنا ثريدًا لذيذًا ولحم طير شهيًّا.
في أثناء تناول الشاي قلت:يا عم، هل لكما أولاد؟ فامتقع وجه الدكتورة وبدت عليها علائم الحزن والأسى، فعرفت أني طرقت بابًا محرمًا ما كان لي إطراقه، فتنهد الشيخ موسى تنهيدة طويلة وانتشرت على جبينه سحابة من الهم والاكتئاب،قال: رزقنا بولدين "صادق وحيدر"نشأناهما على مكارم الأخلاق، وغذيناهما الشجاعة والإقدام، فلما استويا دعونا الله جهد الأيمان أن نزفهما إلى عروسين من أجّل البيوتات، فخطبنا لصادق عروسًا من عشيرة "سعدون"أما حيدر فقد خطب لنفسه عروسًا من أسرة كريمة من مدينة الكوفة، وأخذنا في تجهيز مسكنهما وقد صادف موعد زفافهما غزو العراق، فهبا للزود عن وطنهما، ودافعا عن بلدة الناصرية دفاعًا مستميتًا فلم يقدر الغزاة احتلال العراق من هذا الباب، وهنا تنفس الصعداء وتوقف عن الكلام، فنظرت فإذا بزوجته تستذرف الدموع، فأخذتني الدهشة والعجب، وعلمت أنهما فجعا في ولديهما، وعجبت من قوة يقينهما وإيمانهما.
ثم أنشأ يقول:فلما لم يجد الأمريكان بدًّا من قهر الناصريةوإخضاعها،سلكوا الفيافي والفلوات حتى أتوا ظاهر بغداد، فأسرع ولدانا للدفاع عنها فاستشهدا في معركة المطار الغامضة، مات ولداي وسقط العراق في وهدة سحيقة،وزل في غرز شديد الغي، واستحال إلى صارع ومصروع وكاسر ومكسور، سلام عليكما يا ولداي حيث كنتما؛ لقد كنتما بارين بي وبأمكما، وإنا راضيان عنكما غاية الرضى، وما أن أنهى كلامه حتى ترنح ترنح الشاب الثمل، واختنق صوته البكاء، أما زوجته فقد عصفت بها عاصفة الأمومة وعجزت عن امتلاك نفسها فارتفع بكاءها ونشيجها، فبكيت لبكاءهما ورثيت لحالهما وانكببت على يديهما لثًا وتقبيلًا، وقلت: ألا يرضيكما أنهما الآن مع سيدي شباب أهل الجنة خالدين، وأن الله قد أبدلهما عروسين من حور الجنان، وحاولت جهد الأيمان الترويح عنهما، وقلت: أترضيان أن أكون لكما ابنًا وخادمًا، فردا بالثناء، ودعوا لي بالعافيه،ورفعا أكفهما ورجوا الله حفظ شبابي وسلامتي وسعادتي، ولم أدعهما إلا بعد عودتهما إلى نفسيهما وهدوئهما.
وكان قد مضى جزء من الليل فقلت: أنا تعب من عناء السفر وأريد الراحة، فأذنا ليبالرحيل، فقال الشيح موسى لو أردت أن نعد لك مهادًا وثيرًافعلنا فأنت تعرف أننا وحيدين، قلت بارك الله فيكما وآنس وحدتكما، فقال: غدا سأذهب إلى سامراء لشراء أتبان وغلال لغنمي؛فإن رأيت أن تصحبني فترى المدينة القديمة أطلالها وأخربتها وآثارها ومآثرها فلتبكر بكور الطير السارح، قلت: لا بأس فذلك يفرحني ويشديني، وسأقصد جامعها الكبير ذا المئذنة الملفوفة، وليت الدكتورة تأتي معنا، لترفه عن نفسها وتبرح دارها التي سجنت نفسها فيه، فاستفتاها فرضيت قائلة: والله يا بني لقد نزلت من نفسي منزلة كبيرة، وشعرت تجاهك شعور الأم تجاه ولدها وإني سأتحامل على آلام مفاصلي وأوجاع ظهري رغبة في صحبتك وحبًّا في الارتحال معك، فوقع كلامها من نفسي وقعًا جميلًا وعلمت أن الله قد أبدلني بأبوين كريمين، فقلت: لها أدع الله أن أكون عند حسن ظنك في الرحمةوحسن الصحبة، وقبلت يدها قبلة التقدير والاحترام وودعتهما، وسرت قاصدًا الفندق على عجل.
في سامراء
وصلت الفندق ونفسي تسيل غبطة وسرورًا؛ إذ من الله علي بأبوين أتبرد بهما حر الغربة ولوعتها، ثم فكرت في حال هذه الأسرة المنكوبة وتصريف الدهر فيها وغوائل الأيام لها، فإذا نفسي تفيض همًّا وحزنًا، وعجز الكرى أن يلم بجفوني؛ فصرت أتململ وأتقلب في مرقدي، وأطلب النوم طلبًا حثيثًا، فلم أدرك منه إلا بضع غفوات حين أحسست برودة الفجر واستنشقت بعض نسيمه، وفي الصباح كنت أمام باب الدار في الثامنة فخرج الرجل بملابس شيخ العشيرة الزاهية، وقد وضع العباءة فوق جلبابهالأبيض وغطى رأسه بكوفية وعقال جديدين، أما الدكتورة فاعتذرت وقالت: والله يا بني إن الألم ينهش في مفاصلي نهش الذئاب في الفريسة، وإني لأؤثر البقاء حتى لا أكدر صفوك، وأزعج بالك، فرددت عليها بالثناء والدعاء لها بالبراءة من الأسقام والأوجاع.
انطلقت بنا السيارة تطوي الأرض طيًّا، وقد آثر الشيخ موسى طريق البادية الذي يجري وسط حقول الحنطة ويحفه النخيل،وذلك لاستقامته وقلة عوائقه الأمنية، وما هي إلا ساعة أو يزيد؛إذنحن على مشارف سامراء، وهي المدينة التي أخنى عليها الدهر بعد أن كانت دهشة الدنيا، فقد بناها الخليفة المعتصم ونقل إليها دوائر ملكه وحكم بلاد منها الإسلام، وبنى فيها مبانى تشهد بقوة دولته واتساع ملكه، وقد دُعيت وقت بهجتها بـ"سر من رأى"، ولما أتى عليها الخراب صار يقال لها:"ساء من رأى"، ثم تدحرج اللفظ في الألسنة فصار هذا الاسم الشائع،وقصدنا فيها أحد أصحاب الأملاك فضيفنا بالقهوة، وأظهر لنا ودًّا بالغًا،واشترى الشيخ موسى منه أتبانًا كثيرة وشعيرًا وفيرًا؛ ودفع له مقدم الثمن، وأجّل الباقي إلى أوان الحصاد، وكانت الأخبار تتواتر بأن المعارك مع تنظيم الدولة قريبة من سامراء، فخلا بنا الرجل وقال: لا أكتمكما سرًّا فإنهلا صحة لما يقال في وسائل الإعلام أن الجيشدحرتنظيم داعش، فمقاتلو هذا التنظيم يحدقون بسامراء وربما دخلوها بعد يوم أو اثنين، فأرجو أن تسرعا بالرجوع إلى بغداد وكنت أود أن أقوم بضيافتكما والقيام بأمركما، ولكني ألملم حاجياتي لأجد ملجأ ليفي مزارعي البعيدة، وودعنا وأوصانا بالسرعة وبالحيطة.
قلت للشيخ موسى:ليس من الضروري الفرجة على الخرائب والأطلال، فإن رأيت الرجوع فهيا بنا، قال: لا تقلق لا بد من أن تنال بغيتك؛ فالجامع الكبير ليس بعيدًا من هنا، وسأمنحك نصف ساعة لا أكثر، فدخلت الجامع الكبير ونظرتلبعض ملامحه وأخذتله صورًا ضوئية، وانتدبت من صورني مع الشيخ موسى، وقلت له: هل تأذن لي أن أصعد المئذنة كما كان يصعد عليها المعتصم فأشرف على المدينة؟ فقال افعل ما بدا لك وحبذا لو عجلت، فهرولت إلى قمتها عبر سلمها الحلزوني فوجدتها متداعية مما أصابها في أول سني الاحتلال الأمريكي.
ومن فوق المئذنة رأيت المدينة تموج بالحركة، فالناس تهرول في كل اتجاه، وأصحاب المحال يغلقونها بعجل وزعر، وأعلنت المآذن بأن المارقين محدقون بالمدينة ويحاولون دخولها، وأن القوات النظامية فرت أمامهم وعلى الناس لزوم البيوت حتى يحكم الله حكمه، ونظرت فإذا بالشيخ يشير لي بالنزول؛ فملأ قلبي الخوف والرعب،ونزلت منها نزول السيل من أعلى الجبل، فقال: أسمعت الخبر يا ولدي هيا بنا، وهرولنا نحو السيارة وقصدنا شارع المدينة الرئيسي،فإذا بسيارات المدينةمكدسة فيه،وتعطل المسيربه من الجلبة والازدحام وفرط الفوضى، فنزلنا من السيارة وظللنا نهرول وسط السيارات، وقد أظهر الشيخ عزمًا وجلدًا، وأطلق عنان لسانه بالشتم والسباب على داعش، فتارة تتدحرج منه كلمة بليغة مستملحة، وتارة كلمة مرذولة مستقبحة، ووصمهم بالكفر والعمالة والزندقة، ولكن طول الطريق وشدة ازدحامه حالت دون خروجنا من المدينة، فاستند الشيخ على كتفي وطلب قسطًا من الراحة، فعرضت عليه أن أحمله فأبى بشكل قاطع، ولم أكن لأنتظر منه ردا فنكصت خلفه وجعلته فوق عاتقي ونهضت به دفعة واحدة، وهو يتمنع ويقول: "أنزلني الله يرضى عليك، الله يرضى عليك"، ولكن الناس عكست اتجاهها دفعة واحدة، فقفلوا راجعين بفوضى مهلكة، يدوسون ويحطمون، قيل إن داعش طرقت المدينة من هذا الباب، وإنهم يأسرون ويقتلون بلا هوادة ولا رحمة، فدخلنا شارعًا جانبيًّا لتجنب أثر التدافع، هذا، وجعجعة الرصاص وصوت القذائف يدنو، ورأينا الرايات السود وأصحابها من بعيد، والناس بين صارخ ومأخوذ، فاقترحت على الشيخ أن نلوذ بأخربة الجامع الكبير، فوافق وحملته على ظهري وهرولت به وكان الرصاص أسرع منا يزداد أزيزه ودويه ويثير التراب ويثقب الجدران، ويتساقط الناس من حولنا والشيخ ينادي بصوت خافت: توقف توقف، فلم ألتفت إلى قوله، وآثرت النجاة، ثم أحسست بماء دافئ يسيل على صدري، فأنزلت الشيخ موسى فإذا هو دمهوهو جريحفي عنقه ودمه يفور فورًا.
– ما بك يا عماه؟ ما بك يا عماه؟
الشيخ ذاهب البصر: يسترجع ويحوقل وينطق الشهادتين ويغمغم، يدعو الله القبول وحسن العاقبةوتنتابه رعشة شديدة،ثم جذبني إليه وقال انج بنفسك،وأخذ يتبلع ريقه ويتمتم ويهمس همسًا، فصرت أصرخ وأنادي لمن يساعدني في حمله وإسعافه وتهاتفت عليه أضمه إليّ وطفقت أقبل جبينه وألثمه، وأمزق ثيابي وأنتف شعري ثم ألطم وجهي وأضرب الأرض، وأنوح بأعلى صوتيوأستذرف الدموع الغزار.
– تماسك يا عماه، سأحملك لأقرب مشفى وستعيش ونرجع معًا إلى بغداد حيث تنتظرك الدكتورة، والشيخ يقبض على راحتي قبضًا متقطعًا ثم جذبنى جذبة لا يأتي بمثلها أقوى الشباب، وأخذ يحشرج ويغرغر، ونطق كلمتين فاضت بهما روحه "انج بنفسك يا ولدي".
– فهالني الأمر واستعظمته وأخذ قلبي يتمزق لوعة وأسى، أقتلت يا عماه؟! ها أنت نلت الشهادة ولحقت بأحبائك، ويا ليت ما أصابك أصابني فتتولى أنت تغسيلي وتكفيني، ولكن الله أراد شقاءي، يا لك من رجل مسكين، وماذا يكون شأن زوجتك المكلومة؟ وكيف سأقف بين يديها وقد أخذتك معافًا سليمًا ورجعت بك جثمانًا هامدًا؟ سلام عليك يا أيها الوالد الطيب البار بوطنه ودينه وقومه، سلام عليك أيها العريي الشريف والبدوي الكريم، غفر الله لك وتقبلك في الصالحين وحسن أولئك رفيقا، وانفجرت بالبكاء وجعلت أنشج نشيجًاكالطفل التاءه الخائف.
هذا وقد استحال المكان الذي قضى فيه الشيخ إلى حرب ضروس؛ طقطقة وعجيج، وثغاء وأزيز، وضراب وطعان، وفرار وإقبال والناس تهرول وتصرخ، وإذا بشاب يسحبني من ظهري وأخذ يصفني بالخبل ويقرعني وتقريعًا، "ألا تخاف القتل أو الأسر"؟ إنهم لا يرحمون شيخًا ولا وليدًا ولا غريبًا ولا مقيمًا؛ابحث لك عن مخبأ واعثر لك عن منجى"، فنظرت خلفيألقي على الشيخ الطريح نظرة أودعه بها، والأرض يفترشها الصرعى والجرحى، ورأيت أن آوي إلى المئذنة الملوية أتدرع بها،فارتقيتها بأسرع ما يكون، وإذا بمقاتلي داعش الملثمين ينتشرون ويكبرون ويصرخون ويحمحمون كالخنازير الهائجة، وقد ابتدر صاحب الراية منهم المئذنة يريد ارتقاءها لنصب رايته على قمتها، فلما بلغ آخرها؛ إذ به يقف أمامي فيصرخ بالتكبير والتهليل:"عثرت على زنديق"من أنت أيها الكافر الصابئ؟فذعرت ذعرًا شديدًا ورفعت يديّمستسلمًا ومشيت إليه مشية الخائف المضطرب.
أنا أخوك من أهل العروبة والإسلام، وكنت لا أزال مذهوبًا بالميتة التي ماتها الشيخ موسى بين يدي؛ وكيف أنه أظهر جلدًا وقوة، وصبرًا واحتمالًا في ساعته الأخيرة، وأنه لم يتلعثم ونطق بالشهادتين وفاض قلبه يقينًا وإيمانًا، وفكرت في حال زوجته ماذا يكون مصيرها بعدما سلبت الحياة ولديها ورفيق دربها وتركتها وحيدة مكلومة، فاحتقرت الحياة وازدريتها ونقمت على الدهر وصروفه، وتمنيت لو عجل الله منيتي وأسرع إليّ حمامي، ثم وقفت مكاني مكتئبًا مذهوبًا كالذاهل المختبل واستوت عندي السلامة والقتل والأسر والإفلات.
جمع الداعشي ملابسي في يده وأخذ يدفعني بيده ويوخذني بفم سلاحه؛ويدحرجني على درج المئذنة،ثم اقتادني إلى رجل بلباس الأفغان كث اللحية يبدو على وجهه ظلام القلب وجهل الفكر، فنظر إليّ نظرة شرزاء وقال: من أنت؟وما سبب وجودك هنا؟ وما هذه الدماء التي على ثيابك؟، فقصصت له طرفًا من قصتي، قال: أنت من الروافض إذن، قلت لا وحق أبي بكر ورأس عمر ودهاء معاوية إنها الصدفة لا غير، قال: كبلوه واعصبوا عينيه، وكنتبين أيديهم لا أبدي حراكًا ولا أعمل الحيلة ولم ألجأ للرشوة، وسريعًا فر التنظيم من سامراء خوفًا من قصف الطائرات، بعدما أسرواوغنموا، وفي منتصف الطريق فرزوا الغنائم وحصروا الأسرى، فعرضت على قائد سريتهم فأزال العصابة عن عيني وسألني عن شأني، فاختنق صوتي بالبكاء وقلت الرحمة يا سيدي لا علاقة لي بصراعكم مع غرمائكم، جئت العراق فرارًا من قسوة الحياة وويلاتها، وشقاء الحظ وخيبة الأمل، وآثرت الهجرة وتركت عيالي، فإن كنت مذنبًا فلأني انزلقت في شهوة المال، وإن كنت ملامًا فلخفتي وطيشي وسوء تقديري، ومتى يا سيدي كانت الغربة وطأً لينًا؟، قال:إني لأراك صادقًا ولكني عبد مأمور لا يحق لى إفلاتك، لكن الخليفة في الموصل هومن يقرر ذلك.
وفي الطريق أخذت استرجع الذاكرة وكيف استهنت بنصائح الأهل وعظات الأصحاب، وتجاهلي توسل الزوجة وعبرات العيال، وكيف وهن عزمي وانطفأ شبابي في وطني، وكان سوء الحظ فيه حليفي، فدفعني ذلك إلى المخاطرة والمغامرة، وأدركت حينها أني أسير داعش حقًّا، فأحدق بي الهم،وانتابني الحزن واليأس،وامتقع لوني، وغارت عيناي، ولم تعد لي رغبة في مآكول ولا مشروب وصرت أفكر في مآلي وعاقبة أمري.
صحيح إذن أنا أسير داعش؟! وفزعت إلى الشك أدفع به هول الخطب الفادح الذي حل بي، وصرت أؤنب نفسي وأقرعها تقريعًا، وأعلقها بالرجاء،وأمنيها بالفرج، فلما وصلنا إلى الموصل أفردوا لي محبسًا منفردًا؛ عبارة عن غرفة حقيرة ليس فيها سوى فرش بسيط أرقد عليه وإناء صدء أقضي فيه حاجتي.
وفي السجن رأيت أسرى من كل الطوائف والجنسيات؛هذا من قوات النظام وهذا وذاكمن الحشد الشعبي، وهذا بعثي، والآخر من جيش المهدي، وغيرهم من الغريرين الآبقين من التنظيم،يمكث الواحد يومًا أو يومين بعدها يقضى في أمره، والسجانون من جنسيات عدة وأصحاب لغات مختلفة تعرفهم في لحن الكلم، وكثير منهم سعوديون وهم الملثمون دومًا،وهناك أوربيون وشيشانيون وأفغان ويمنيون وأفارقة وشوام، سألت واحدًا عن شأنه وكنت قد لاطفته فقال: أنا سعودي من الطائف كنت في رغد من العيش لدي من السيارات أربع، ومن البيوت أكثر، ومن المال لا أعرف عدده، فالتحقت بهذا التنظيم منالملل والبطالة؛ما تثقفتهمنالفقه الحنبلي بلا تدبر،وحين رأيت الباطل يضعضع الإسلام، ومذ وصلت حرقوا أوراق سفري وزوجوني بإحدى سباياهم من الكلدان، ثم فاضت عبراته وأجهش بالبكاء،فعلمت مأزقه وأنه صار بين شقي الرحي، التنظيم الذي لا يرحم الآبقين والحكومات التى لا تقبل توبة التائبين، وسألت آخر أخبرني أنه من فرنسا، قلت: ما الذي حملك على أن تنزل هذه البلاد وقد هيئ الله لكم في بلادكم من الرغد والنعيم وأصبتم فيها من الحرية والكرامة؛ ما يحسدكم عليها أهل الأرض جمعاء، كان يكفيك أن تعبد إلهك بأى صقع وفي أي اتجاه، فطريق الخير موجود في كل بلاد الله،أما كان الأجدر أن تظل في بلادك تدع بالحسني والفضيلة فتكون سفيرا للإسلام، فتكلم بلغة متكسرة وألفاظ خائرة، وقال: تربيت في باريس ودرجت في شوارعها فألفت الحرية ومللتها وكرهت النظافة من فرط المبالغة فيها، حتى إذا نشر الناشرون رسومًا يهينون فيها رسول الإسلام؟ولم تدفع حكومات الإسلام ولا مؤسسات الدين ذلكالأمر، ففار دمي وغلى دماغي، والتحقت بهذا التنظيم، وتعلل الشيشاني بجبروت حكام الروس في أخذهم بلادهم بكل قسوة، وتعلل العرب بسجون بلادهم وقهر حكامهم، وتذرعآخر بالفاقة، وتحججذاك بسطوة اليهود على أبناء فلسطين.
أيها الأغرار السطحيين لقد أخطأتم بهجرتكم من أوطانكم وباعتقادكم أنكم تناصرون الإسلام، لقد نال الإسلام منكم ومن أمثالكم وبفقهكم المعوج وفكركم الضال مالم ينله من أعدائه وخصومه، لقد أحدثتم في بنيان الإسلام خرقًا لم يسبقكم إليه سابق، وصرتم حجة أعداءهوبرهانهم في تشويهه والصد عنه، لقد استحال دين الرحمة والسلام على أيديكم إلى دين الجازرين والسفاكين!!!.
وفي مساء اليوم الثاني جاءني أحدهم وقال غدًا ستقابل خليفة الدولة؛ فقف بين يديه وقفة الخنوع، وعظمه تعظيم الملوك وطأطئله رأسك وأسبل طرفك، فبت ليلتي تلك أدور في الحجرة متوجهًا إلى الله منقذ البائسين بالضراعة والابتهال أن يفرج كربي ويرحم ضعفي ويمد يد العون لي وأن ينظرلذلي ومسكنتي وغربتي ويفك أسري رأفة بأمي وعيالي،وقلت: يا إلهي إن كنت قد بلوتني لتمحص عني ذنوبي فإن العفو من أسماءك والمغفرة من صفاتك، فلا ناصر لي ولا معين سواك، وفكرت في والدتي المسكينة وحزنها على إذا بلغها خبر نحريورأت ذلك مع الرائين عبر الشاشات، ثم صرت أهدئ من روعي وأثبت من جأشي وظننت أن الله ليس بخاذلي.
المجادلة
وقفت عند خليفتهم وكلي لوعة وأسى، مطرق الرأس ساهم الوجه؛يخفق قلبي وأتبلع ريقي، وترتعش شفتاي، وتسري في نفسي رعدة شديدة.
قلت: سلام عليكم أيها الخليفةالهصور يا ظل الله في كل المعمور.
قال: ما شأنك؟
قلت: عبد من عبيدك ومملوك من مماليكك.
قال: أفصح.
قلت: أنا رئيس جامعة البؤس والشقاء، أنا عميد كلية المنكوبين والمكلومين، أنا ابن الدموع والأحزان وسليل النكبات والعثرات، جئت إلى هذا البلد هربًا من الشقاء، فتبعني حيث ذهبت، وهربت من الفقر والإقلال، فإذا أنا أسير حرب ونضال، وعجزت عن امتلاك نفسي ومتابعة الحديث واشتد نحيبي ونشيجي.
فتبسم وقال: ونحن أبناء القهر والسجون، ألست من الروافض؟
قلت: لا وعائشة الطاهرة، فأرجو أن تطلق سراحي رحمة بأفراخي، إنك يا سيدي إن قتلتني ومثلت بي أكون قد جلبت لهم العار الذي لا ينسي، ولا أعلم كيف يكون مآلهم.
قال: قد علمنا أنك لست من أهل الروافض.
فاستطرت فرحًا وسرورًا، وجرى ماء البشر في وجهي.
قال: ولكن قد تكون جسوسا علينا.
قلت: أسرني جنودك من سامراء،وجنابكم يعلم أن الجاسوس يداخل القوم ويداهنهم.
قال: قد أعجبني منطقك وتفكيرك،ستكون واحدًا منا نحتاج أمثالك.
قلت: ولكني أحبذ لو أطلقت سراحي وسأجاهد في تربية عيالي.
قال: قضينا أمركوأبرمنا قضيتك.
فذعرت ذعرًا شديدًا وأصابتني حالة أشبه بالجنون والخبل، وأنشأت أعج عجيجًا، ثم عدت إلى نفسي وثبت رشدي وقلت هي ميتة على كل حال، فسأجادله وأصدع بالحق عسى أن يموت شره في صدره.
فقلت -والعبرات تخنقني-: سيدي لما هذه الحرب الضروس التي تحاربون والقتل الذي تقتلون؟ مالكم والإسلام تضلون به غرار الشباب، ومهما كانت أسبابكم فقد جلبتم أعداء الإسلام إلى أرضه بغلوكموجهلكم؛ يتخذونكم ذريعة لقرضه وضعضعته، وما هذه القسوة التي تملأ قلوبكم؟ فاتخذتم الذبح والحرق سبيلًا للخلاص، وما قتل الأولون بالسيوف إلا لإنها كانت آخر المخترع.
وكيف تقتادون ذبائحكم وهم يعلمون مآلهم ويرون سكاكينكم؟ وتنشأون تخطبون فوق رؤوسهم، وقد سمعتم النبي –صلى الله عليه وسلم- يوصي جازر السوائم أن يقودها إلى الموت قودًا جميلًا، وكيف تأسرون مسالمًا وتقتلون أعزلًا؟وقد أوصى النبي جنده بألا يغلو ولا يغدروا وألا يمثلوا ولا يقتلوا وليدًا ولا سيدةً ولا راهبًا.
كيف بلغت القسوة بالقلب الإنساني ليقتاد أخاه ليذبحه بيده؟ وكيف نزع الله الرحمة منها فصارت كالحجارة أو أشد قسوة؟ وقد علمتم أن الله ذم قساة القلوب فقال{لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} (المائدة:13) وقال عن النبي{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء107)، ألم تسمعوا قول النبي"من أعطي الرفق فقد أعطي حظه من الخير"، وقال: "من لا يرحم لا يرحم"؟.
أما علمتم بأمر الرجل العاطش في الزمن المتقدم؟الذي عثر على بئر فسد ظمأه، ثم رأى كلبًا في مثل حالته من الظمأ، فرق له واحتال حتى سقاه في خفيه؛ ولم يسل إن كان الكلب عقورًا ضالًا أم أليفًا وديعًا، ولم يهتم إن كان الكلب يحرس وثنًا أم يلازم نبيًّا، لأن ينبوع الرحمة تفجر في قلبه، فغفر الله له وشكر صنيعه دون أن ينظر لمعتقده ولا لدينه، وهل عرفتم بأمر المرأة التي قسا قلبها؟فحبست هرةومنعت عنها أسباب الحياة فأهلكتها، فأدخلها الله النار ولو كانت من أهل التوحيد.
كيف تأسرون بلا حرب وتقتلون المسالمين يقول تعالى{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الإنسان 8)، وقال في فكاك الأسرى:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}(محمد4)، ألا تعرفون أن الله سيسعر النار بمجاهد لا يبتغي وجهه ولا سبيله.
قال-وقد بدا عليه علائم الغضب-: ألم تسمع بما فعلوا بسجن أبي غريب؟وماذا فعل المالكي؟ وما فعل القذافي في سجن بلاده المسمى بأبي سليم وغيرهم من حكام العرب، ألم تعلم كيف تآمر الكل على العراق؟وسأطلق سراحك لو قمت بذبح الرهينة الياباني أمام الكاميرات.
قلت: أنا والياباني سواء بسواء، وإن كانت بعض النواهي تباح في فقه الضرائر فكيف أنهاكم عن الشر وآتيه وكيف أقدم على هدم بنيان رصه الله؟.
قال: قد فندت لنا الأعزار ولكن سنذبحك بعد الياباني لجريرة من قتل في رابعة النهار.
فصرخت صرخة عظيمة وطاش سهمي وقلت: إن غريمكم هذا الناعم الخائر ليس من ذوي المروءة فيفتديني أو يهتم بأمري.
موعد النحر
وأشار إلى أتباعه أن اسحبوه، فجثوت بين يديه أتضرع له واشتد بكائي ونحيبي، وسحبوني من بين يديه، وألبسوني زي الإعدام، فجعلت أغمغم بكلمات وصرت أروّح عن نفسي بالسخط والغضب، فقلت: أليس لهذا الكون إلهًا يدبره؟ يارب يا منتقم ويا جبار ألا تغار على أسمائك وصفاتك، يارب أنزل غضبك على الذين يريدون هدم بنيانك وإطفاء جذوة دينك، أيها الأوغاد كيف ملأت قلوبكم الأرجاس والأدران؟وكيف لا تهب على قلوبكم نسمة من نسمات الرحمة.
ألم يكفكم الدموع الغزار التي ذرفتها، وقلت وقد ازداد يقيني وإيماني: فإن كنتم قضيتم أمري ولم تبق إلا خطوة واحدة إلى قبري فتخطوها، وإن كان الله كتب علي النحر في الأزل فإني راض؛ لأن فدائي هو ثواب الصابرين وجزاء الشاكرين، وعدت لنفسي وصرت أرى الجنة بعين اليقين، فلما حانت ساعة الذبح؛ أوكلوني لرجل طوالٍ فهمس في أذني وقال سأودعك سرًّا قبل نحرك، قلت: وما هو؟ قال: نحن عملاء جهاز المخابرات الأمريكي والإسرائيلي، أوقعنا الخلف بينكم ليقتل بعضكم بعضًا بأموالكم وأسلحتنا، فرفعت رأسي ونصبت ظهري وجففت دموعي؛ لأني علمت أن جزاري عدوي وليس أخي.
وجئت إلى موضع النحر مكبلًا وأنشأ الناحر يلقي خطبته، فأخذ قلبي يخفق خفقانًا سريعًا، ثم تلوت الشهادتين ودعوت الله أن يجعل لأولادي سلطانًا عوضًا عن فقدي، ويا ابنتي الصغيره لطالما كنت تتعلقين بعنقي وتسألين ما هذا النتوء فكنت أجيبك: "هذه تفاحة آدم ولكنها لا تؤكل بالسكين" الآن يا صغيرتي أن قطف هذه الثمرة بحد السكين،ثم وضع سكينه في نحري وشرع يقطعه قطًّعا، فصرخت صرخة دوى لها المكان، فجأة !!!!!!!! إذ بيد تهز عنقي هزًّا شديدًا(مالك مالك اصحو اصحو من نومك لا تخف أنت بخير) الحمد الله أدركتني زوجتي فأيقظتني من هذا الكابوس القاتل.