طلب البعض مني أن أدلي برأيي في الوضع الاقتصادي، وأنا لا أدعي الخبرة التامة بالعلم الاقتصادي، فالاقتصاد بحاره عميقة وأري
بقلم : طـارق عـامـر
طلب البعض مني أن أدلي برأيي في الوضع الاقتصادي، وأنا لا أدعي الخبرة التامة بالعلم الاقتصادي، فالاقتصاد بحاره عميقة وأري أنه ليس علما بحد ذاته ولكنه مرآة تعكس كل التفاعلات والمكونات المتواجدة في أي مجتمع، وحيث ان النظام العالمي الجديد أصبح منفتحا علي بعضه البعض فصار الاقتصاد يتأثر لدرجة كبيرة بعوامل خارج البلد الواحد وأصبحت أدوات السياسة الاقتصادية ليست بكاملها تحت سيطرة واضعيها، فاقتصاد السوق العالمي هو الحاكم وأصبح من أهم سمات واضعي السياسة الاقتصادية ومنفذيها أن يكونوا علي درجة كبيرة من الإلمام بالفكر والعوامل التي تحكم قطاعات المال والأعمال في دول العالم والعلاقات السياسية والاقتصادية والمصالح المشتركة بين الدول.
وفي خلال سنوات حياتي العملية كنت موفقا في البداية باختيار العمل في أحد البنوك الأمريكية في مصر وكان ذلك بعد الانفتاح الاقتصادي مما أكسبني بعض الخبرات التي لا بأس بها أتاحت لي الذهاب لعشرات البعثات في دول العالم المختلفة فيما يزيد علي ٠٤ دولة شاهدت ورأيت ودرست أنظمة البنوك والعمل المصرفي وتحليل أداء الدول، لقد عملت كل سنوات عمري داخل مصر إلا ثلاث سنوات عملتها في الخليج العربي.
وكانت السنوات التسع الأخيرة التي عملت فيها بالبنك المركزي والبنك الأهلي فترة أيضا أعتز بها ومليئة بالثراء والعلم والمعرفة واكتسبت منها رؤية وخبرة مختلفة وثرية.
القطاع العام
ولقد كان أبي – رحمة الله عليه – أقرب إنسان لي في الدنيا وكنت قريبا جدا منه ملاصقا له طوال الوقت وكنا دائما ما نتناقش في موضوعات مثل القطاع العام والقطاع الخاص والاقتصاد الحر والاقتصاد الموجه بجانب طبعا موضوعات السياسة في مصر والمنطقة علي الأخص.
وكان أبي مؤمنا إيمانا كبيرا بالقطاع العام، فقد أفني كل سنوات عمره في بنائه وكان له دور كبير في إنشائه وإنشاء صناعات الاسمنت وتأسيس شركة الحديد والصلب وعمل ملاصقا للمهندس صدقي سليمان رئيس المؤسسة الاقتصادية وكان والدي عضو مجلس إدارة بها ومسئولا عن قطاع الصناعة في الدولة، وحقيقة كان هو الذي نفذ عمليات دمج القطاع الخاص والأجنبي بعد قرارات التأميم عام ١٦٩١ التي أصدرها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.
وكنت في حياتي أضج بمستوي الأداء بالقطاع العام وتدني مستوي الخدمة به وإن كان هناك بالطبع عدد من الشركات التي أدت أداء ممتازا. وكان والدي يقول لي يجب إصلاح القطاع العام وليس بيعه ولابد من فصل الملكية عن الإدارة »مش مهم مين المالك المهم أن الذي يدير لديه الكفاءة والصلاحيات«، وكان يدلل علي ذلك بقوله إن فندق ماريوت مملوك للدولة ولكن إدارته إدارة أجنبية وبالتالي هو مؤسسة ناجحة، ولكن أثناء عملي بالقطاع العام وجدت أن تحديات تنفيذ هذا الفكر ضخمة ومتطلباته صعبة وتكاد تكون مستحيلة، ولو أننا قد حققنا فعلا نجاحا علي أرض الواقع لكن تطلب الأمر ان نعرض أنفسنا لضغوط ومقاومة غاية في الشدة.. وسوف يكون لي مقالة أخري أتحدث فيها عن القطاع العام والخاص باسهاب.
ولقد التحقت بالقطاع العام في ٣٠٠٢ ولبيت طلب الالتحاق به عندما اتصل بي الأستاذ الفاضل محمد بركات رئيس بنك مصر عندما تقلد المنصب وكنت في ذلك الوقت أقضي السنة الثالثة لي في الخارج واستجبت علي الفور.. ولقد أتاحت لي السنوات التسع الماضية أن أري العمل في القطاع العام من داخله حيث عملت نائبا لرئيس بنك مصر لمدة عشرة أشهر ثم تم اختياري من قبل الدكتور فاروق العقدة لأكون نائبا له بالبنك المركزي رغم أننا لم نلتق إلا عام ٣٠٠٢ لأول مرة، ثم بعد ذلك عملي بالبنك الأهلي في السنوات الأربع التالية وحتي الآن.
ولقد تعاملت مع أطراف عديدة في تلك الفترة داخليا وخارجيا علي مستوي المسئولين والمؤسسات والدول، وبالتالي اكتملت إلي حد ما خبرتي العملية وأصقلت سواء في القطاع الأجنبي أو القطاع العام.
ومع ذلك أري أنه يجب أن نكون دائما حذرين قبل إدلائنا بالآراء في أمور تهم مصلحة المجتمع، فقد لاحظت خلال الفترات الماضية أن هناك الكثيرين الذين يدلون بآراء سريعة حاسمة وكأنهم علي يقين من وجهة نظرهم في حين أنه قد تكون هناك أمور كثيرة غائبة عنهم عند إبداء الرأي.
الوضع في مصر
وعندما يبادرني أحد بالسؤال كيف تري الوضع الاقتصادي وما هي توقعاتك؟
لا أستطيع الاجابة بدون أن يذهب خاطري إلي الأوضاع السياسية وما يحدث في المجتمع الآن وما يقع حولنا في العالم.
أعتقد ان المجتمع لفي حالة مخاض، تتعامل به وفيه قوي كثيرة مختلفة وعتيدة، والكل يحاول ان يدافع عن وجوده ومصالحه، قوي داخلية وقوي خارجية، ووسط هذا الزخم تحاول آمال شباب الثورة الأصليين وأحلامهم وتضحياتهم ان تحول الثورة إلي واقع ملموس ينعكس علي مصر وعلي حياتهم اليومية ويغيرها تغييرا دراماتيكيا عن الأوضاع الراهنة والسابقة.
وفي خضم تلك الأحداث تنزف البلد، تنزف أولا وقبل كل شيء أغلي ما فيها وهي دماء شبابنا الغالي، ويلي ذلك في الأهمية ولكنه ضروري للحياة الموارد المالية والاقتصادية.
والصراع اليوم يتكون من أطراف عدة ضد الثورة كالثورة المضادة وأطراف دولية ودول عظمي يهمها في المقام الأول ان تستمر في فرض سيطرتها علي المنطقة العربية وخاصة ثرواتها البترولية لتأمين تدفق النفط الذي هو الحياة بالنسبة لهذه الدول الأكبر استهلاكا في العالم، وأيضا ليكون لديها مفتاح مصير دول آسيا التي أصبحت قوتها الاقتصادية المتنامية ذات شأن عظيم مثل كوريا والصين والهند واليابان وماليزيا واندونيسيا.
وحيث ان مصر هي مفتاح المنطقة العربية فان جولة الصراع الجارية علي أرض مصر الآن هي معركة طاحنة لا مجاملة فيها ولا تهاون ولا رحمة.
أما الوضع الاقتصادي فهو ينتظر حسم تلك المعارك والصراعات، والذي ذكرته كان شيئا وجيزا منها، ناهيك عن إسرائيل ومطامعها وبعض الدول العربية ورغبتها في الريادة وأخري راغبة في الاستقرار ومنزعجة من الحدث المصري الجليل وهو الثورة المصرية التي ان نجحت سوف يكون لها تأثيرات بعيدة المدي علي المنطقة العربية ومصالح الدول الكبري.
والسؤال هل يمكن وضع سياسة اقتصادية متوسطة أو طويلة المدي في الوقت الراهن وفي خضم تلك الأحداث، فعلي أرض المحروسة البرلمان المنتخب بالكاد بدأ في دورته وانتخابات الرئاسة لم تبدأ بعد والدستور لم يوضع حتي الآن والزمن لم يستكمل.
أعتقد انه من الصعب الان وضع سياسة طويلة الأجل ولكن مطلوب إدارة لهذه الفترة باسلوب دفاعي نحاول ان ندافع فيه عن تدفق مواردنا المالية والاقتصادية حتي تستمر حياة المواطن اليومية وتتجنب البلد الانحدار في أزمات مالية تؤدي إلي ما لا يحمد عقباه.
وحتي نستطيع توقع الوضع المستقبلي يجب ان ندرس تاريخ الدول التي خاضت تلك التجارب قبلنا – اندونيسيا مثلا- ويجب ان يكون لدينا مفهوم عن النتائج التي ممكن ان تحدث بالنسبة لأوضاع ما بعد الثورة حتي نستطيع ان نجنب الوطن خسائر عملية التحول أو نقلل منها.
وأنا أري ان مصر بلد تحيطه الأطماع من كل صوب والتالي أري وقد أكون مخطئا ان التغيير المنشود يجب أن يكون تدريجيا حتي لا تتهاوي الدول تحت ضغط المتغيرات الكبيرة.
ودائما الثوار هم مثاليون في مشاعرهم، مثاليون في اهدافهم ورؤيتهم ولكن أرض الواقع يجب ان يكون مختلفا بعض الشيء، وأهداف الثورة يجب ان يكون هناك تصور لتحقيقها علي مدي أوسع، وأري ان الثوار يجب أن يلتفوا حول بعض الشخصيات ذات الخبرة أو أحد المرشحين للرئاسة الذي يجدون فيه مثلهم وفكرهم ويقومون بتكوين حزبهم ويستهدفون الانتخابات القادمة حتي يحولوا ثورتهم من الشارع إلي العمل السياسي البناء.
أما بالنسبة للشعب فأقول ان الثورة ليس معناها ان الأوضاع الاقتصادية ستتحول إلي الأفضل حالا وفورا.
وأقول للمواطنين ان الاصلاح الاقتصادي والنهضة التي تنشدونها تحتاج إلي تضحيات، فهل نحن مستعدون لتلك التضحيات، وهذا سؤال مهم يجب أن يسأله كل مواطن لنفسه قبل أن يطالب بالاصلاح، فالحكومة ليست لديها عصا سحرية، وفي هذا الوقت العصيب يجب علي الشعب والبرلمان دعم الحكومة ومساندتها مادامت هي الحكومة التي ارتضيناها.
وأناشد الخبراء الاقتصاديين الذين يكتبون كل يوم أن يتوخوا الحرص في ما ينتقدون وفيما يتطلعون إليه من الدولة. فلقد قرأت لمعظمهم ولم أجد أي مادة تروي ظمأي بالنسبة للحلول.
ان تحديات العمل العام أوسع وأكبر بكثير من تصورات من هم في مقاعد المراقبة وإني أتذكر أحد الوزراء الأجلاء الذي احترمه وأقدره، ففي كتاباته كان ناقدا مستمرا وحين تولي الوزارة في فترة وجيزة لم يستطع أن يؤدي الأداء الذي كان يصبو إليه.
واليوم نحن نريد أن نحافظ علي بلدنا، والواجب أن يراعي كل صاحب قلم المسئولية الضخمة التي يتحملها ويدرك أنها أمانة سوف يحاسبه عليها المولي سبحانه وتعالي، فإن تأثير القلم أصبح اليوم أقوي من تأثير القنابل.
العلاقات المصرية الأمريكية
أثير في الأيام الماضية موضوع المعونة الامريكية وعندما سئلت في ذلك قلت: مصر تستورد وتستهلك من الخارج ما قيمته ١٥ مليار دولار في العام، كان هذا الرقم ٨١ مليار دولار فقط عام ٢٠٠٢، ماذا يجري إذا خفضت مصر استهلاكها من ١٥ مليار دولار إلي ٠٤ مليار دولار أو ٥٤ مليار دولار سيحدث وفر كبير عشرات أضعاف أي معونة.
نستهلك كهرباء ضعف ما هو مطلوب فمصر تستهلك ٨.١ مليار كيلووات في العام في حين أن الناتج القومي ٠٣٢ مليار دولار، وتركيا تستهلك نفس الكمية من الكهرباء في حين أن ناتجها القومي أكثر من ٠٠٨ مليار دولار.
مصر تستورد سيارات ومكونات سيارات ما يقرب من ٣ مليارات دولار في العام وشوارعنا مكتظة بالسيارات والاحتياطي النقدي ينخفض بشدة.
هل نحن في مصر علي استعداد للضغط علي أنفسنا؟ وهل نحن مستعدون للتضحية حتي نعبر هذا النفق المظلم؟
أي سياسة اقتصادية إن لم تكن مدعومة من الشعب والبرلمان لا يمكن لها النجاح، ورغم ثقتي في أننا من الممكن ان نستغني عن المعونة الأمريكية، فإني أري أن الموضوع أكبر وأخطر من ذلك فالموضوع يتصل بعلاقتنا بأكبر وأقوي دولة في العالم وقائدة العالم الغربي التي قادت التقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي علي مدي القرنين الماضيين.
وأري انه ليست من مصلحة مصر أن تشجع الأبواق التي تستعدي الولايات المتحدة الأمريكية، نحن أولا يجب أن نتوقف عن أن نكون انفعاليين في قراراتنا فمازلت أتذكر سنوات الهجوم علي الولايات المتحدة وكانت نتيجة هذا الصدام أن فقدت مصر أغلي أبنائها في اليمن وسيناء وفقدت الأرض، ويا أبناء وطني يجب أن نكون عقلاء جدا وحكماء في كيفية التعامل مع دول العالم الخارجي ونحن في مصر لنا كرامتنا وسيادتنا ولكن يجب أن تكون قراراتنا بهدوء وترو ولا تكون قراراتنا وردود أفعالنا حادة.
وإني أستبعد تماما أن تقطع الولايات المتحدة الأمريكية المعونة لأنها هناك علي دراية بأهمية هذه العلاقة المشتركة، وهم يتخذون قراراتهم بهدوء وحذر وبعد تفكير طويل ولا تقودهم الانفعالات أبدا.. ان علاقتنا مع الولايات المتحدة هي علاقات مهمة ومصيرية لمصر علي المدي القصير والطويل ويجب أن تتسم بالتوازن فلا تنزلق إلي الاستسلام التام كما حدث من قبل ولا تنجرف إلي العداء كما حدث أيضا من قبل.
وبالتالي فبالنسبة للتعامل مع المشكلات عموما والدولية بصفة خاصة ومثلا المشكلة الحالية مع الولايات المتحدة، لا تستقيم الأمور إذن بأن يتم تحديد مصير مصر بقرارات منفردة ولكن ما يضمن سلامة القرارات وسلامة الدولة أن يكون القرار مؤسسيا نابعا من تنظيم يتم انشاؤه يقوم بدراسة القرارات والموضوعات فيه من القاعدة إلي القمة، لتطرح علي مجموعات متخذي القرار البدائل بعد أن تكون تلك الموضوعات خضعت لدراسات حقيقية علي أعلي مستوي من التقنية والبحث والتحليل وبأحدث الأساليب العلمية المتبعة، فمثلا في الولايات المتحدة يوجد مستشار للأمن القومي بعمل مع الرئيس مباشرة ويكون لديه أعلي مستوي من الخبرات في الدولة ويستعينون بباحثين في كل الجامعات المتقدمة وذوي الخبرة.
ونحن في مصر، لكي نتخذ قرارات بشأن سياستنا الخارجية – وخاصة مع دولة ذات أهمية قصوي كالولايات المتحدة- نحتاج أن يتم ذلك بعد الاستعانة بخبرة العقول والخبرات المصرية في السياسة الدولية والاقتصاد التي تناقش الموضوعات من كافة الأوجه وتداعياتها ونتائجها وتحسبها بدقة شديدة ويتم عرضها علي مؤسسات الدولة المعنية والبرلمان، ففي السابق كان يعرض علي البرلمان الموضوعات الثانوية ويستحوذ الرئيس علي قرارات الدولة المصيرية.
وإنه لأمر في غاية الخطورة أن تترك موضوعات الأمن القومي لصحافة غير مسئولة تدفع المجتمع في اتجاه معين أو لبرامج فضائية تتناولها ويتم اتخاذ قرارات وتوجيه الرأي العام في اتجاهات تكون في غالبية الأحوال ضد المصلحة العامة للدولة وضد امنها القومي، ولا أجد دولة غير مصر تتناول توجهاتها السياسية عبر صفحات الجرائد والفضائيات، ولقد دفعت مصر ثمن هذا غاليا في تاريخها.
تطوير مؤسسات الدولة
لا أستطيع أن أقنع نفسي أبدا أنه مع التدهور الشديد في كافة نواحي الحياة أن يقول لنا بعض المسئولين إن هذه المؤسسة أو تلك تضاهي المستويات العالمية، فأي مؤسسة يتأثر مستواها بمستوي المناخ الذي تعمل به والدولة التي تعمل فيها وبالتالي يجب أن نبدأ نحن في مصر من الآن في احداث هذا التطوير في المؤسسات السيادية، وهذه البداية ستكون مؤشرا لنا أن الثورة قد بدأت تحدث في مصر.
وهذا التطوير يتطلب الاستعانة بكفاءات من خارج تلك الأجهزة، وهذا التطوير للدولة ولأدائها هو الأولوية الضرورية، وأنا ضد وبشدة أي حديث عن صغائر مثل رواتب من سوف نستعين بهم، فهذه الهجمات غير الموضوعية والشخصية هي هجمات تضر بالدولة فأولا قبل أن نتكلم عن الرواتب يجب أن نتكلم عن الأهداف الكبري التي لابد أن نحققها لبلدنا وبعد ذلك نستعين بهؤلاء الذين هم قادرون علي قيادة هذا المشروع التحديثي أما ما يتقاضونه فإنه أمر ثانوي لا يرقي إلي الحدث الذي نتكلم عنه من تنمية موارد الدولة واقتصادها والخروج من الأزمة الراهنة وإدارة سياسة الدولة داخليا وخارجيا.
وإلي اللقاء في المقالة القادمة
طــارق عـامـر
رئيس البنك الاهلي ورئيس اتحاد بنوك مصر
نقلا عن جريد الاخبار